فاتفق رأي طرود على تهيئة الحجر وحرق الجبس في موضع لا يراهم فيه الزناتيون ويبنون خفية حيث أرادوا وإذا تم ذلك لا تقدر زناته على نقضه.
فحرقوا حينئذ الجبس في سندروس وأتوا بالحجر من الفولية وبنوا لزعمائهم بيوتا صغارا أي بيتا لكل واحد منهم في المكان المُسمى الآن (البلد) في حافة السوق الغربية شرقا من منازل اليهود الكائنين في هذا العهد وكان اليهود وقتئذ ما زالوا بنواحي جلهمة (١)، ففي ليلة واحدة أتموا سبع بيوت ولم تعلم زناته بذلك وزادوا في الليلة الثانية تسع بيوت، وقيل: كانت التسع في الليلة الأولى والسبع في الثانية. ولما فطنت زناته اغتاظوا غيظا شديدا وعزم بعضهم على هدم ذلك البناء فمنعهم كبارهم قائلين لهم: لا تفعلوا شيئا إلا بمشورة من له الرأي فيكم.
فاختاروا من قومهم عشرين رجلا ثم انتخبوا من العشرين خمسة وكانوا إذا عزموا على التكلم في أمر يبتعدون عن القرية بناحية يتيقنون قلة سالكيها وبنحو ميل أو أكثر، فأبدى كل واحد رأيه ثم قال كبيرهم: أيها الناس إن طرودا ما فعلوا هذا الأمر إلا لأنهم عزموا على إرغامنا عليه، فإن الغالب ظلوم، وقد حكى أن
(١) كان وجود اليهود مبدئيا بشمال إفريقيا منذ القرن الأول قبل الميلاد وقد قدموا إليها إثر الغزو الروماني لفلسطين واستقر البعض بأرض الجزائر حيث سكنوا المدن والقرى بالشمال والوسط، ومن مشاهير رجال الدين عندهم شمعون بن إسحاق ومن سلالته طريف الذي شرع دينا جديدا في عهد هشام بن عبد الملك وقد سبق الكلام عنه في التعليق عن موضوع العلويين ومرورهم بسوف، ولما كان عهد الفندال بالشمال الإفريقي ومحاربتهم للأديان، فر رجال الدين المسيحي إلى المنطقة الجنوبية وتبعهم في ذلك اليهود فتوزعوا على الزاب وبسكرة وتقرت وورقلة وغرداية، وأخيرا منطقة سوف فنزلوا بقريتي جلهمة وسحبان. وبعد تأسيس مدينة الوادي وقرية قمار انتقلت إليهما بعض الجاليات اليهودية، ولليهود بسوف أماكن قديمة تنتسب إليهم مثل المكان المُسمى شوشة اليهودي وسيف اليهودي ونزلة موشى، وقد تناسلت الجاليات اليهودية بسوف مع مرور الزمن وكثر عددهم بالوادي، وكان لهم به حي خاص غربي السوق يُسمى حومة اليهود، وكان منهم ربيون وبيعة لآداء شعائر دينهم، وأغلب حرفهم صنع الحلي من فضة أو ذهب، وصنع القرداش لندف الصوف وبيع خمر النخيل وإعطاء الديون بالربى وقد امتلكوا من عملهم كثيرا من النخيل وقد قلدوا أهل سوف في لباسهم وطعامهم وأظهروا لهم توادهم واتباعهم في أفكارهم وعاداتهم بل بلغ الأمر بالبعض منهم حتى إلى الانتساب في الظاهر لطريقة من الطرق الصوفية بسوف.