وإلى هذا الحين كان المد العربي قد وصل غربًا إلى عمالة قسنطينة وإقليم الزاب، وصار الملتحم بين العرب والبربر بجبال بني راشد وما وراءها من سهوب مزاب بالمغرب الأوسط، وانعقد الصلح بين العرب وبين الأمراء الصنهاجيين على أنَّ يستقل الأولون بملك الضواحي والأرياف، وينفرد الأخيرون بملك المدن، ووضعت الحرب أوزارها مؤقتًا.
واحتال الصنهاجيون بعدما أنهكتهم الحروب في تفريق كلمة العرب والتضريب بينهم، واستغلال خلافاتهم القَبَلية لمظاهرة بعضهم على بعض، وحدث في تلك الأثناء خلاف بين الأثبج ورغبة فظاهر الناصر بن علناس أمير القلعة الأثبج على خصومهم من بني عمهم، واستنفر أمراء زناته وكان فيهم زيري بن عطية المغراوي ملك فاس، فاجتمعت صنهاجة وزناته في الأربس وجرت بينهم وبين عرب رياح معركة طاحنة انهزمت فيها صنهاجة، فاستبيحت خزائن الناصر وفساطيطه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم، ونجا هو إلى قسنطينة وعرب رياح في اتباعه، ثم لحق بالقلعة فتبعوه إليها وأمعنوا في جنباتها عبثا وتخريبا، وعطفوا على ما هناك من المدن مثل طبنة والمسيلة فدمروها وشردوا أهلها، ومالوا على المنازل والقرى والضياع فتركوها قاعا صفصفا، وغوَّروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الأرض الفساد حتى تركوا تلك الأقاليم (أفقر من بلاد الجن وأوحش من جوف العير) على حد تعبير ابن خلدون (١).
وقد اضطر هذا الغزو القاسي دولة صنهاجة إلى هجران قلعة بني حماد قاعدة الإمارات الغربية ومقر حكومتها، فاختط الناصر بن علناس مدينة بجاية بالساحل، ونقل إليها ذخيرته ومتاعه وأعدها لنزله وجعلها عاصمة ملكه، ونزلها ابن المنصور من بعده فأصبحوا في مأمن نسبي بها، نظرا لمنعة الجبال المحيطة بها، ووعورة مسالكها، وصعوبة السير فيها على الرواحل العربية، ولما صفا أمر المغرب العبد المؤمن بن علي سنة (١١٤٧ م - ٥٤١ هـ) وتملك الأندلس كانت الأخبار ترد عليه باستمرار عن تفاقم الحالة بإفريقيا، واختلاف أمرائها واستطالة العرب عليها بالعبث والفساد، فكان يتشوق إلى حسم مادة الفوضى وتثبيت النظام في تلك