للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعرض الناس آراءهم حتى أنفدوا. فقال: ما أسمع شيئًا، وقد صرتم إليَّ؛ اجمعوا أثقالكم وضعفائكم. ففعلوا، ثم قال: حَمِّلوا ظُعنكم؛ فحملوها. ثم قال: انطلقوا حتى تعلوا في اليمن (١)؛ فإن أدْرَككم أحد كررتم عليه، وإن أعجزتموهم مضيتم. فسار الناس حتى أتوا وادي نُجَار (٢) ضَحْوة.

ثم رُئي الناس يرجع بعضهم على بعض، فقال الأحوص: ما هذا؟ قيل: هذا عمرو بن عبد الله العامري، قدم في فتيان من بني عامر يَعْدُون بمن أجاز بهم، فقال الأحوص: قَدِّمُوني، فقدموه حتى وقف عليهم، فقال: ما هذا الذي تصنعون؟ فقال عمرو: أردت أن تفضحنا وتخرجنا هاربين من بلادنا، ونحن أعز العرب، وكثر عددًا وجلدًا وأحد شوكة! تريد أن تجعلنا موالي في العرب إذا خرجت بنا هاربين.

قال: فكيف أفعل وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به! فما الرأي؟ قال: نرجع إلى شعب جَبَلَة، فنحرز النساء والضعفة والذراري والأموال في رأسه، ونكون في وسطه ففيه ثَمل (٣)، فإن أقام من جاءك أسفل أقاموا على غير ماء، ولا مُقام لهم، وإن صعدوا عليك قاتلتهم من فوق رءوسهم بالحجارة، فكنت في حِرْز، وكانوا في غير حِرْز، وكنت على قتالهم أَقْوَى منهم على قتالك. قال: هذا والله الرأي، فأين كان هذا حين استشرتُ الناس؟ قال: إنما جاءني الآن، فقال الأحوص للناس: ارجعوا، فرجعوا. ودخلوا شعب جَبَلَة، وحصنوا النساء والذَّراري والأموال في رأس الجبل، ومنعوا الإبل عن الماء، واقتسموا الشَّعب بالقِدَاح والقُرَع بين القبائل في شظاياه (٤)؛ ثم عمي عليهم الخبر، فصاروا لا يدرون ما قُرب أعدائهم من بُعدهم.

وأقبلت تميم وأَسَد وذبيان ولِفُّهم نحو جَبَلَة، فلقوا في طريقهم كَرِب بن صفوان السعدي (من تميم) - وكان شريفًا - فقالوا له: ما منعك أن تسير معنا في غزوتنا؟ فقال: أنا مشغول في طلب إبل لي، فقالوا: لا، بل تريد أن تُنذر بني عامر، ولا نتركك حتى تعطينا عَهْدًا وموثقًا ألا تفعل؛ فحلف لهم.


(١) وردت في الأصل اليمين ولعله تحريف.
(٢) نجار: موضع في ديار بني تميم.
(٣) الثمل: الخصب والماء.
(٤) الشظايا: القطع من رءوس الجبال.

<<  <  ج: ص:  >  >>