والذين أحاطوا أنفسهم بجنود وبطانة كبيرة من العجم، سواء من التُرك أم الفُرس، وما فتئوا في إرسال تجريدات وحملات يقودها أتراك أشهرهم بغا الكبير، يحاصرون ويفتكون بهذه القبائل القيسية المتمردة ضد سياستهم القاسية مع قبائل العرب، وحرمان البلاد الحجازية والنجدية من الرعاية والعناية، وكان هؤلاء الخلفاء في بغداد يبررون حملاتهم ويحتجُّون بأن هذه القبائل البدوية تقطع طرق التجارة والمواصلات، وتهاجم الحجاج وتنهب المدينة النبوية .. إلخ، متناسين الأسباب والدوافع التي دفعت هؤلاء لهذا السلوك، وهي الفاقة والفقر والحرمان التي تتجرعه في ظل الخلافة العباسية، التي كانت تملك كنوز الشرق والغرب، وقد كان الخلفاء والأمراء والوزراء من بني العباس وبطانتهم من العجم في النعيم المقيم في بلاد الرافدين وغيرها من الأمصار الإسلامية.
وهكذا نهج العباسيون مع قبائل قيس عيلان، وفي المقابل كان نهج مضاد يتميز بالعنف والكراهية والمقت - لأن الضغط يولد الانفجار - وفي النهاية بعد العداء المستحكم بين السلطة والرعية، وبعد الويل والثبور طُردت أغلب قبائل قيس من شبه الجزيرة العربية، وأقول ذلك لأنها غادرت بلادها مُرغمة مقهورة، وقد استُقطبت من قبل خلافة أخرى في إفريقيا هي الخلافة الفاطمية، والتي لم ترتح هيَّ الأخرى لهذه القبائل، فدُبرت لهم حيلة على يد وزير المستنصر الفاطمي المُسمى اليازوري، لإرسالهم لمقاتلة ملوك البربر من صنهاجة وزناتة، الذين انشقوا عن الفاطميين في القاهرة ورفعوا راية العباسيين في بغداد، وهكذا كان في عام ٤٤٢ هـ وقد اقتحموا بجحافلهم بلاد المغرب وكسروا ملوك البربر، وتغلَّبوا على ضواحي إفريقيا، وانتهى بهم المطاف إلى أن يتوطنوا تلك البلاد، وينجوا بأنفسهم من خسف الخلافتين العباسية والفاطمية، وكليهما لم يستمرا طويلًا، فكانت نهاية الأولى مُفزعة وقاسية على يد التتار (المغول) عام ٦٥٦ هـ، ولا يخفى على أحد الفظائع التي اُرتكبت ضد آل العباس ورعيتهم وتدمير مُلكهم. أما الخلافة الفاطمية فكانت هي الأخرى قد بدأت في الانحطاط بعد نزول هذه القبائل لمصر بفترة وجيزة، ثم انقرضت عام ٥٦٧ هـ وتولى بعدها بنو أيوب "الأكراد" وتملكوا البلاد، فكانت بداية أليمة لخروج الحُكم والسلطان من العرب على المسلمين، وقد سلمتهما امرأة من بقاياهم في آخر عهدهم بمصر وهيَّ (شجر الدر) إلى المماليك، وذلك في عام ٦٥٢ هـ فأصبح هؤلاء الرقيق من الشراكسة والتركمان سادة وحكام على أمة العرب والإسلام!
ولا يخفى على أحد تاريخ هؤلاء المماليك المشهورين بالغدر وسفك الدماء مع