وتتابعت سنوات العهد المدني حبلى بالخير والعطاء، تضم أيامها وشهورها سرايا وغزوات، وفتوحات وانتصارات، حتى كانت السنة التاسعة للهجرة، وفيها خضعت الجزيرة كلها لحكم رسول الله ودانت أكثر قبائل العرب للإسلام.
ووفدت قبيلة طيئ في السنة التاسعة للهجرة، وكانوا خمسة عشر رجلا، وفيهم زيد الخيل بن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد الطائي، وكان زيد خطيبا شاعرا كريما فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ودخلوا وجلسوا قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث يسمعون صوته، فلما نظر -عليه الصلاة والسلام - إليهم قال: إني خير لكم من العزى ومن الجمل الأسود -وكان يعني - صلى الله عليه وسلم - صنمهم "الفلس" - الذي تعبدون من دون الله، ومما حازت مناع ولائها، من كل ضار غير نافع. فقال زيد الخيل وكان من أعظمهم خلقا وأحسنهم وجها وشعرا، وكان يركب الفرس العظيم الطيويل فتخبط رجلاه في الأرض، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه: الحمد لله الذي أئى بك من حزنك وسهلك، وسهل قلبك للإيمان ثم قبض على يده فقال: من أنت؟ فقال: أنا زيد الخيل بن مهلهل: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله. فقال له: بل أنت زيد الخير، ما أخبرت عن رجل قط شيئا إلا رأيته دون ما خبرت عنه غيرك فبايعه وحسن إسلامه وأسلم من كان معه من كبراء طيئ وحسن إسلامهم، وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل واحد منهم كتابا على قومه، إلا وزر بن سدوس النبهاني، فقال: إني أرى رجلا يملك رقاب العرب، والله لا يملك رقبتي عربي أبدا، ثم لحق بالشام وتنصر وحلق رأسه.
وخرج زيد الخير من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى قومه، بعد أن قطع له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدا (وهو موضع بشرقي سلمى أحد جبلي طيئ وأراضيه معه)، وكتب له بذلك.
فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له:"فردة" أصابته الحمى فمات بها، ولما أحس بالموت قال:
أمرتحلُ قومي المشارقَ غدوةً … وأتركُ في بيت بفردة مُنْجد
ألا ربَّ يوم لو مرضت لعادني … عوائدُ من لم يبر منهن يجْهدَ
ولما مات عهدت امرأته لجهلها وقلة عقلها إلى ما معه من الكتب فحرقتها بالنار!