ومما تتناقله الألسن: أن فارس الجربا المذكور لما رأى أن سبل العودة إلى نجد مع عشيرته شمَّر قد سدت، وأن موقفه صار مهددا بالخطر، لمتابعة السعوديين الهجمات على أطراف العراق، وكان قد تحقق من أن الجزيرة العربية الفراتية أكثر أمانا له ولعشيرته، عبر الفرات من موقع هيت في أوائل سنة ١٢١٦ هـ مع خمسين بيتا من عشيرته الخرصة، وكانت السيطرة الكاملة في الجزيرة لقبيلتي العبيد وطيئ، واستقراره فيها كان متوقفا على محاسنة هاتين القبيلتين. فلم يغفل عن هذا، فأسرع إلى جوار العبيد أولا ملتجئا إلى حماية شيخها حمد الظاهر، فتلقاه هذا بالترحاب، وكانت العادة المتبعة لدى العشائر البدوية تقضي على العشيرة أو الفرقة النازلة مجددا أن تقيم هي أولا وليمة عامة تدعى إليها العشيرة القاطنة الأولى، لتكون هذه الوليمة مقدمة للتعارف والتآلف بينهما، فأقام فارس الجربا وليمة عامة دعى إليها شيخ العبيد وشيخ طيئ وشيخ الجبور وغيرهم، وقدم لهم منسفا كبيرا جدا فيه ناقة مطبوخة كما هي. وفي أطراف المنسف سكاكين مربوطة بالسلاسل لقطع اللحم، فاستعظم المدعوون ما رأوه واسترابوا وقالوا لبعضهم أن حالة هذا الرجل تدل على جلالة قدره، ولا بد أن تكون عشائر كثيرة وراءه، وستلحقه إلى الجزيرة إن عاجلا أو آجلا، فالرأي الصواب إن نقضي على هذه الشرذمة قبل أن تزداد بما يرد إليها ويستفحل أمرها، وفي رواية أن الذي أشار بهذا الرأي كان شيخ العبيد أحد المدعوين للوليمة، فلم يرق ذلك إلى البقية وقالوا: إن هذا الرجل جاءنا نزيلا، ولم يأت محاربا، فحدث بعد ما خشي منه صاحب المشورة.
لأن فارس الجربا بعد أن استقر في الجزيرة شرع يوالي الرسل والرسائل إلى عشائره النازلة في أنحاء الشامية المختلفة، ويدعوها إلى اللحاق به، وزيادة لها في الإغراء والتشويق كان يحشو حدج الإبل والركائب الذاهبة إليها من كلأ الجزيرة وأعشابها المتنوعة، الصالحة لرعي جميع أجناس المواشي، فهرعت إليه عشائر شمَّر من كل صوب وحدب، ولم يطلع عام ١٢١٧ هـ حتى كانت حوله بكاملها، سيما وأن السعوديين كانوا يتابعون هجماتهم على أطراف العراق، ويوالوا طروقهم مضارب الأعراب المخيمين هناك لاستحصال الزكاة، مما عجل