وأين الذين كان يعطيهم القرى … بغلاتهن والمئين الغواليا
وأين الذين يحضرون جفانه … إذا قدمت ألقوا عليها المراسيا
رأيتهم لَمْ يشركوا بنفوسهم … منيته لما رأوا أنَّها هيا
سوى أن حيًا من رواحة أقبلوا … وكانوا قديمًا يتقون المخازيا
يسيرون حتى حَبَّسوا عند بابه … ثقال الروايا والهجان المتاليا
فقال لهم خيرًا وأثنى عليهم … وودَّعهم وداع أن لا تلاقيا
وأجمع أمرًا كان ما بعده له … وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا (١)
قالوا فهل بعد هذا من إيمانه تشك فيه؟ والجواب عن هذا كله من وجوه:
الوجه الأول: هو أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغته قصيدة كعب قبل إسلامه والتي سنسوقها في ترجمة كعب والتي يقول فيها لأخيه بجير:
وخالفت أسباب الهدى واتبعته … على أي شيء ريب غيرك دلكا
على خلق لَمْ تلف أمًا ولا أبًا … عليه ولم تدرك عليه أخًا لكا
قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجل لَمْ يدرك عليه أباه ولا أمه. فهذا من الأدلة القاطعة على أنَّ زهيرًا لَمْ يؤمن، وإن كان عارفًا فمجرد المعرفة لا تكفي ما لَمْ يتوجها صاحبها بالتصديق والاعتقاد الجازم. وهذا شيء من المؤسف أن نجده في مجتمعنا كثيرًا، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها. فلو خلا الإنسان بنفسه وتدبَّر كيفية إيمانه لوجد أنه لَمْ يقتنع اقتناعًا جادًّا وإنما وجد آباءه مؤمنين فاتبعهم. وحصاد هذا أننا الآن لا نتورع عن الغش والخديعة، والكذب، والغيبة والنميمة، والبطر، وإنفاق السلع
(١) ولهذه الأبيات قصة وهي أن النعمان بن المنذر حين طلبه كسرى ليقتله خرج فأتي طيئًا وكانت ابنة أوس بن حارثة الطائية عنده فأتاهم فسألهم أن يدخلوه جبلهم ويؤووه فابوا ذلك عليه وكانت له في بني عبس يد؛ لأنَّ مروان بن زنباع كان قد أسر فأحسن في أمره وكلَّم فيه عمرو بن هند عمه وتشفع له على أن عوف بن محلم قد كان أمنه يومئذ وجاء به معه حتى وضع عوف نفسه في يد عمرو بن هند ثم وضع يد مروان على يده ويومئذ قال عمرو بن هند (لا حُرَّ بوادي عوف) فحمله النعمان وكساه فكانت بنو عبس تشكر ذلك للنعمان. فلما هرب من كسرى ولم تدخله طيئ جبلها لقيته بنو رواحة من عبس فقالوا له: أقم فينا فإنا نمنعك ما نمنع منه أنفسنا فأثنى عليهم خيرًا، وقال: لا طاقة لكم بكسري فيومئذ قال زهير هذه القصيدة. ذكر ذلك أبو العباس عن حماد انظر شرح شعر زهير ص ٢٠٦.