للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في حديث ما كهذا الذي نحن في صدد الكلام عليه أن الصحابة كرهو استقبال القبلة، فما يكون ذلك منهم إلا اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتباعا يستحقون عليه الأجر والمثوبة، لأنهم على أقل الدرجات مجتهدون مخطئون مأجورون أجرا واحدا، وسبب خطئهم عملهم بالنص على عمومه، أو عملهم بالمنسوخ الذي لم يعرفوا نسخه، وأي الأمرين فرض، فلا يعقل أن ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه طاعتهم إياه فيما كان نهاهم عنه قبل أن يبلغهم النص المخصص أو الناسخ، كيف وهو المعروف بتلطفه مع أصحابه في تأديبهم وتعليمهم، كما يدل على ذلك سيرته الشريفة معهم، كحديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي تكلم في الصلاة جاهلا، وغير ذلك مما هو معروف، فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم إنكارا شديدا مع أنهم فعلوا أشياء لم يسبق أن جوزها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما في هذا الحديث فهو ينكر عليهم أشد الإنكار عملهم، وما هو؟ كراهيتهم لاستقبال القبلة، التي كانوا تلقوها عنه - صلى الله عليه وسلم -، فهل يتفق هذا الإنكار مع هديه - صلى الله عليه وسلم - في التلطف في الإنكار؟ كلا ثم كلا، بل لو أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبدل شيئا من الحكم السابق أو أن ينسخه من أصله لقال لهم كما قال في أمثاله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها». أخرجه مسلم وغيره وهو مخرج في «الصحيحة» «٢٠٤٨».

فلو أن قوما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - استمروا على العمل بهذا النهي لعدم بلوغ الرخصة إليهم، أفكان ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليهم أم يكتفي بتعليمهم؟ لا شك أن الجواب إنما هو تعليمهم فقط، فكذلك الأمر في كراهة الاستقبال، كان يكتفي معهم بتعليمهم، وأما أن ينكر عليهم بقوله «أو قد فعلوها» فإنه شيء ثقيل لا أكاد أتخيل صدوره منه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أراحنا الله تعالى من التصديق به بعد أن علمنا ثبوته بالطريق التي أقام الحجة بها على عباده في تعريفهم بتفاصيل شريعته، وأعني الإسناد. واعلم أن كلامنا هذا إنما هو قائم على أساس ما ذهب إليه بعض العلماء من الاستدلال بالحديث على نسخ النهي عن استقبال القبلة، وأما على افتراض أنه كان قبل النهي عن استقبال القبلة فلا يرد الاستنكار المذكور، وعليه حمل ابن حزم

<<  <  ج: ص:  >  >>