أن الإحفاء غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وإنما ثبت عن بعض الصحابة، كما ثبت عن بعضهم خلافه، وهو إحفاء ما على طرف الشفة، وهو الذي من فعله - صلى الله عليه وسلم - في شارب المغيرة.
وهذا الإحفاء هو المراد بالأحاديث القولية الآمرة بالإحفاء وما في معناها، وليس أخذ الشارب كله؛ لمنافاته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يأخذ من شاربه ... ». والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وهو الذي اختاره الإمام مالك، ثم النووي وغيره، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
واختار الطحاوي الإحفاء، وأجاب عن حديث المغيرة بقوله:«فليس فيه دليل على شيء؛ لأنه يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء الشارب»! قلت: وهذا الجواب ظاهر التكلف؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيته؛ لأن في الحديث - كما تقدم - أن المغيرة كان ضيفاً عليه - صلى الله عليه وسلم - لما قص شاربه، فهل يعقل أن لا يكون عنده - صلى الله عليه وسلم - مقراض بل مقاريض؛ إذا تذكرنا أنه كان له تسع زوجات؟ ! فلعل الطحاوي لم يستحضر ضيافة المغيرة عليه - صلى الله عليه وسلم -، أو أنها لم تقع له، وهذا هو الأقرب الذي يقتضيه حسن الظن به؛ لأنه إنما روى الحديث مختصراً. وكذلك ذكره الشوكاني «١/ ١٠١»، وقال عقبه - بعد أن حكى خلاصة كلام الطحاوي بقوله:«قال: وهذا لا يكون معه إحفاء» -: «ويجاب عنه أنه محتمل، ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة، وهو إن صح كما ذكر؛ لا يعارض تلك الأقوال منه - صلى الله عليه وسلم -»! قلت: وجواب الشوكاني أبعد عن الصواب من جواب الطحاوي؛ لأن الاحتمال المذكور باطل؛ لا يمكن تصوره من كل من استحضر قص الشارب على السواك. وأما ترجيح أقواله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو صحيح لو كانت معارضة لفعله معارضة لا يمكن التوفيق، وليس الأمر كذلك؛ لما سبق بيانه.