قال بعض المتأخرين من المحققين الحنفيين:«ونظيره: قوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا}؛ فنهى الله عز وجل عن تصريح المواعدة في العِدَّة، واستثنى منه التعريض والكناية. فالتعريض والكناية بالاستثناء لم يبق حراماً؛ لا أنه صار فرضاً أو واجباً، ولا يبعد أن يكون قريباً من الكراهة».
قال تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}؛ فهل هذا الإغماض والمسامحة واجب عند أحد؟ ! إنما هو إغضاء على القذى وسحب الذيل على الأذى.
فثبت من هذا الاستثناء: أن الاستثناء بعد النهي لا يفيد الوجوب والركنية، وإنما يفيد الإباحة؛ لا سيما إذا وردت هذه الإباحة على سببٍ حادثٍ؛ لا ابتداءً؛ فلا يبقى ريبة في أنها إباحة مرجوحة غير مستحسنة ولا مرضية، ويدل على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه:«هل تقرؤون خلف إمامكم؟ ».
قال بعض: نعم. وقال بعض: لا. فقال:«إن كنتم لا بدَّ فاعلين؛ فليقرأ أحدكم بـ: «فاتحة الكتاب» في نفسه».
فمن قال: لا؛ لم يأمره بالإعادة. ثم قال:«إن كنتم فاعلين» - ووزانه وزان قول الله عز وجل:{وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} -، ثم قال:«فليقرأ أحدكم»؛ فلفظُ:«أحدكم»، لغير الاستغراق.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن»؛ فهو بيان وصف في «الفَاتِحَة»، وأنها من وصفها كذا، لا حكم به الآن ها هنا، والوصف لا يستلزم الحكم ما لم يحكم، ولم يحكم إلا بالإباحة.
نعم؛ يكون حكماً سابقاً، وهو إذن لغير المقتدي، ثم سبق هنا ثانياً لغير المقتدي على أنه بيان وصف في «الفَاتِحَة»، فجعلوه حكماً الآن، وليس كما ينبغي! وهو كقولنا