هذه الأقيسة لوجوه: أحدها: أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في «الأصول»: إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد. ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مفطرة. الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانا عاما، ولابد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا، علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنته خروج الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة، كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت.
وبهذه الطرق يعلم أيضا أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا ولا يزالون يحتجمون ويتقيؤون؟ ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك» «قال»: «فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى، لابد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانا عاما، ولابد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب. فلوكان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بغيره. فلما لم يبين ذلك، علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن. والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ، وينعقد أجساما، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جواز تطيبه وتبخره وادهانه، وكذلك اكتحاله. الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحا وذلك إما قياس على بابه الجامع، وإما بإلغاء الفارق، وإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معد لها