فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: ٩] فلمّا أراد الله -عز وجل- أن يُعيد الحكم السابق قبل أن يأمرهم بقوله:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} بالبيع والشراء ونحو ذلك، وهذه الآية من أدلّة علماء الأصول على أن الأمر لا يستلزم أن يكون للوجوب دائمًا وإن كانوا اختلفوا في الأصل، هل الأصل في الأمر الوجوب وهذا هو الراجح عند جمهور علماء الأصول، أما الأصل في الأمر أنه لا للوجوب ولا للاستحباب وإنما ذلك يُتطلب من الأدلة الأخرى الخارجة عن الأمر، وهذا كما ترون أو كما تشعرون معي مذهبٌ مرجوح؛ لأنّه يتطلب في كل أمرٍ بحثًا وتفرّدًا، لا يستطيع المخاطبون بكل هذه الأوامر، ولذلك كان قول الجُمهور بأن الأصل في الأمر إنما هو الوجوب هو الصواب في المائة مائة، لأن الأسلوب في التكلم في اللغة العربية يقضي ذلك أولاً، وثانيًا؛ لأن جعل الأمر مهلهلاً لا يفيد وجوبًا ولا استحبابًا إلا على ضوء الأدلّة التي يجب على كل سامعٍ للأمرِ مباشرةً فمعنى ذلك تعطيل الأوامر الشرعية وتعطيل تنفيذ ما أُمِرَ المسلمون به، وهذا يذكّرني بقصة ويبدو أن الوقت انتهى فلنجعلها آخر هذه الجلسة لأن فيها أولاً فائدة وفيها نكتة وظرافة.
جاءني مرةً أحدُ إخواننا السلفيين في دمشق وأنا في المكتبة الظاهرية، فشكا إليَّ رئيسَه في المكتب الذي هو يعمل فيه، وأنّه اختلف مع رئيسه في هذه المسألة الأصولية، هل الأمر للوجوب أم ليس للوجوب، رئيسه يتبنى الأمر الثاني أنه ليس للوجوب، وصاحبنا يتبنّى أنه للوجوب كما نشرح ذلك في كل مجالسنا، وصاحبنا ليس في قوة رئيسه في الثقافة الشّرعية، وفي العلم في الأصول والفروع، فبحكم هذا التفاوت يتغلب الرئيس على المرؤوس أولاً، وثانيًا هو رئيس، فقلت له لأني لا أستطيع مثل هذا الأخ السلفي أن ألقّنه الأدلة في جلسةٍ واحدة وبخاصة وهو يأتيني وأنا منكبّ على البحث والتحقيق في المكتبة الظاهرية وليست المكتبة مجالاً للوعظ والتعليم وَوَإلى آخره، فأعطيته كلمات يمكن بها أن يُفهِم صاحبَه ورئيسَه، قلت له: ما دام الأمر كذلك كلما أمرك الرئيس بشيء فأنت لا تطعه، بيقولك مثلاً: عطِني الكتاب الفلاني، عطِني قلم، عطِني ورق، عطني كذا، بالتعبير السوري؛ قلتُ له: