فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ودعائه لا بسبب النداوة، وسواء كانت قصة جابر هذه هي عين قصة ابن عباس المتقدمة كما رجحه العيني وغيره، أو غيرها كما رجحه الحافظ في «الفتح»، أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الاحتمال الآخر، فلأن النظر الصحيح يقتضي أن تكون العلة واحدة في القصتين للتشابه الموجود بينهما، ولأن كون النداوة سببا لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هم الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجنان لكثرة ما يزرع فيها من النباتات والأشجار التي تظل مخضرة صيفا وشتاء! يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع، تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
ب - في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة، أو بالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك قوله «ثم دعا بعسيب فشقه اثنين» يعني طولا، فإن من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة، فتكون مدة التخفيف أقل مما لو لم يشق، فلو كانت هي العلة لأبقاه - صلى الله عليه وسلم - بدون شق ولوضع على كل قبر عسيبا أو نصفه على الاقل، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب، وتعين أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة لشفاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما هو مصرح به في حديث جابر، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب، وإن احتمل اختلافهما في الواقعة وتعددها.
فتأمل هذا، فإنما هو شئ انقدح في نفسي، ولم أجد من نص عليه أو أشار إليه من العلماء، فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فهو مني، واستغفره من كل ما لا يرضيه.
ج - لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا