إنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرين» فيتوهمون أن هذا الحديث يدل على جواز المشي بين القبور في النعال، وليس الأمر كذلك، ذلك؛ لأنه ليس من الضروري أن نتصور أولاً: أن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الميت إذا وضع في القبر أنه يسمع قرع النعال، أنه يعني أن المشي بين القبور في النعال جائز، لأنه يمكن أن نتصور الأمر بحيث لا يصطدم مع أمره لصاحب السبتيتين بخلعهما.
يمكن أن نتصور أمرين اثنين دفعاً للتعارض، الأمر الأول: أنه لا تلازم بين سماع الناس عند انصرافهم من دفن الميت، أن يكون الدفن بين القبور، بحيث يستلزم هذا الدفن المشي أيضاً في النعال بين القبور.
يمكن أن يكون هذا السمع من الميت لقرع النعال في وضع خاص، كأن يُدْفن في حافَّة المقبرة في جانب منها.
وحينئذٍ: فلا يستلزم إذا ما استحضرنا هذه الصورة أن يكون الناس قد ساروا بين القبور في نعالهم. هذا الشيء الأول.
والشيء الثاني: أنه يوجد لدينا قاعدة أصولية تساعدنا على التوفيق بين الأحاديث التي قد يبدو التعارض بينها أحياناً.
من هذه القواعد: أنه إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح، فحديث السبتيتين يحظر على المسلم أن يمشي بين القبور متنعلاً.
الحديث الثاني في ظاهره إذا لم نحمله المحمل الذي ذكرت آنفاً، في ظاهره يفيد إباحة المشي بين القبور في النعلين، فإذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح.
وهذه القاعدة بدهية جداً لمن يتتبع تدرج الأحكام الشرعية، وطريقة ورودها ونزولها على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نعلم جميعاً أن العرب في الجاهلية كانوا في ضلال مبين، وكانوا لا يعلمون شيئاً مما يعرف بعد الإسلام بأنه حرام أو حلال.
وكذلك نعلم أن أول ما أُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما هو الأمر بعبادة الله وحده