قلت: فمن تأمل في هذه الأحاديث الصحيحة تبين له بيانا لا يشوبه ريب أن التخيير الوارد فيها إنما كان منه - صلى الله عليه وسلم - لإعداد النفوس وتهيئتها لتقبل حكم جديد قد يصعب ولو على البعض تقبله بسهولة لأول وهلة ألا وهو الأمر بفسخ الحج إلى العمرة لا سيما وقد كانوا في الجاهلية - كما هو ثابت في «الصحيحين» - يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج وهذا الرأي وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أبطله باعتماره - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة فهذا وحده وإن كان كافيا في إبطال تلك البدعة الجاهلية، فإنه ولا قرينة هنا، بل لا يكفي - والله أعلم - لإعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد، فلذلك مهد له - صلى الله عليه وسلم - بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم ثم أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج إلى العمرة كما تقدم.
فإذا عرفنا ذلك فهذا الأمر للوجوب قطعا ويدل على ذلك الأمور التالية:
الأول: أن الأصل فيه الوجوب إلا لقرينة ولا قرينة هنا بل والقرينة هنا تؤكده وهي الأمر التالي وهو:
الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم تعاظم عندهم كما تقدم آنفا، ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه، ألم تر أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمرهم من قبل ثلاث مرات أمر تخيير ومع ذلك لم يتعاظموه، فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب وهو المقصود.
الثالث: أن في رواية في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: « ... فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار. قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون -قال الحكم كأنهم يترددون- أحسب ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا». رواه مسلم والبيهقي وأحمد «٦/ ١٧٥». ففي غضبه - صلى الله عليه وسلم - دليل واضح على أن أمره كان للوجوب لا سيما وأن غضبه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لترددهم لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر وحاشاهم من ذلك، ولذلك حلوا جميعا إلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة «٤٤».