وأذكر أيضاً بأننا في ذلك الموقف لا ينبغي أن نُضَيِّع وقتنا هناك بشيء من الحديث الدنيوي أو المناقشات في بعض المسائل العلمية أو في المزح والضحك؛ فإنها ساعة قَلَّما تُعَوَّض، وعلينا أن نستقبل القبلة، ومن كان قادراً أن يَظَل قائماً مُسْتَقْبِلاً القبلة يذكر الله تبارك وتعالى، ويدعو متذللاً .. متخشعاً لله عز وجل هكذا، حتى يرى الشمس قد غربت عن شماله.
إن من الحِكْمة أو من حِكْمة جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين الظهر والعصر، هو تفريغ هذا الحاج، ليتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى بطلباتهم ورغباتهم وأدعيتهم، يهتبلونها فرصة يتوجهون فيها إلى الله عز وجل بقلوبهم، والتلبية هناك واردة أو مستمرة: لبيك اللهم! لبيك، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في تلبيته هذه أحياناً: إنما العيش عيش الآخرة، لبيك اللهم! لبيك، إنما العيش عيش الآخرة.
كما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«خير ما قلته أنا والنبيون قبلي دعاء عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، فيكثر إذاً: الحاج هناك من ذكر الله، والتلبية، والدعاء، والتهليل متذللاً متخشعاً كما ذكرنا، حتى تغرب الشمس، وحينذاك ينطلق الناس إلى مزدلفة، وفي مزدلفة يشرع بل يجب تأخير الصلاتين، والجمع بينهما بعد دخول وقت العشاء جمع تأخير، يصلى كما تعلمون المغرب ثلاث ركعات، والعشاء ركعتين، ثم لا سهر ولا سمر ولا جلسات علمية ولا شيء، وإنما النوم مبكراً اتّباعاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليستيقظوا جميعاً مُصْبِحين مُبَكِّرين ليصلوا صلاة الفجر في الغَلَس، لقد كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المدينة مهجره، أن يصلي صلاة الفجر في الغلس؛ حتى قالت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها-: [إن كان النساء المؤمنات لينصرفن من صلاة الفجر وهن لا يُعْرَفن من الغلس]، هكذا كان هديه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، وهو في المدينة، أما في المزدلفة، فقد بَكَّر أكثر من ذي قبل بصلاة الفجر، حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة في الغلس، إلا صلاة الفجر في مزدلفة، وهو يعني بذلك في الغلس الشديد، فهو كناية عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَّر جداً في صلاة الفجر في الغلس، وذلك لكي ينطلق عليه الصلاة والسلام هو ومن