مسعود رضي الله عنه أن تخفى عليه هذه السنة مع قِدَمِ صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -! ومع ذلك؛ فليست هي أول سنة عملية خفيت عليه، بل لها أمثلة أخرى: منها: سنة الأخذ بالركب في الركوع؛ فكان رضي الله عنه ينكرها، ويذهب إلى التطبيق، مع ثبوت أنه منسوخ - كما يأتي بيانه قريباً -؛ ولذلك أجمع العلماء على رد ما رواه من التطبيق.
واختلفوا في العمل بحديثه هذا؛ فذهب جمهور علماء الإسلام؛ فقهاؤهم ومحدثوهم في سائر الأقطار والأمصار إلى ترك العمل به، والأخذ بالأحاديث المذكورة المُثْبِتَةِ للرفع في هذين الموضعين عند الركوع والرفع منه، وهو مذهب مالك في آخر قوله، «وهو الذي مات عليه رحمه الله - كما رواه ابن عساكر «١٥/ ٧٨/٢» -»، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وخالفهم أكثر علماء الكوفة، ومنهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه؛ فأعرضوا عن هذه الأحاديث، وأخذوا بحديث ابن مسعود هذا.
وجرى بسبب هذا الخلافِ بين الفريقين نزاعٌ طويل بين أتباعهم ومقلديهم؛ كل ينتصر لإمامه، وما ذهب إليه. والأمر عندي أهون من ذلك؛ فقد ثبت الرفع عنه - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر - كما رأيت -، حتى قال ابن القيم في رسالة «الصلاة»«٢٠٩»: «إنه صح ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ كما صح التكبير للركوع، بل الذين رووا عنه رفع اليدين هنا أكثر من الذين رووا عنه التكبير». اهـ.
فثبوت ذلك لا ينكره إِلا جاهل. وقد اعترف بذلك علماؤنا، لكنهم ذهبوا إلى أنها منسوخة، واحتجوا على ذلك بحديث ابن مسعود. ولا يخفى أن القواعد الأصولية المتفق عليها بين الحنفية ومخالفيهم تأبى القول بالنسخ؛ لأنهم قالوا: إنه لا يجوز القول بالنسخ ما أمكن الجمع بين المتعارضين. وهو ممكن هنا من وجهين:
الأول: أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع أحياناً، أو في غالب الأوقات، ويدع أحياناً.
الثاني: أن يقال: المثبِتُ مقدم على النافي. وهي قاعدة أصولية أيضاً.