قلت كذلك حشرت في زمرة الكذابين وسقط الاحتجاج بنقلي وبكلامي، لكن لما لم أقل: سمعت، وقلت: قال ابن باز فهذا صحيح، قال ابن باز، لكن ما هي الواسطة بيني وبينه؟ يتوهم السامع أن هذا من جملة ما سمعته منه، فيتبين مع البحث والتحقيق أن هذا الكلام أنا ما سمعته منه، كان على الشيخ أن يقول: بلغني عن ابن باز، أو حدثت عن ابن باز، أحسن ما يقول: قال ابن باز يوهم الناس أن هذا مما تلقيته منه، هذا هو معنى التدليس.
ثم شيء آخر ينبغي أن يضم إلى هذا: لماذا يدلس المدلس هذا النوع من التدليس؟ لأن هناك أنواع أخرى قد يطعن بالمدلس وتسقط عدالته بخلاف ما نحن الآن بصدده من هذا النوع من التدليس، لماذا يدلس هذا التدليس؟ كانت هناك ظروف سياسية، كان بعض الولاة ينقم على بعض الرواة حتى من الصحابة، فيتحفظ التابعي في الرواية عن ذاك الصحابي الذي ينظر إليه الحاكم أو الملك أو الخليفة أو الوالي نظرة عداء، فلا يريد هذا الراوي أن يشهر نفسه بأن له صلة ما بذلك الصحابي ... عند ذاك الوالي، فلا يقول: حدثني فلان ويكون قد سمع منه، وإنما يقول: قال فلان؛ لأنه إذا قال: قال فلان، لم يثبت اتصاله به، أما إذا قال: حدثني فلان، فقد أثبت اتصاله به، ففي هذه الحالة هو يتحاشى ألا يقع في هذا التفريق من أجل دفع الضر الذي قد يصيبه فيما لو صرح بالتحديث.
إذًا: التدليس من هذا النوع لأسباب وظروف شخصية بعضها سياسية تضطر الراوي أن يروي بالعنعنة ولا يصرح بالتحديث، فمثل هذا يتوقف علماء الحديث عن الاحتجاج بحديثه حتى يتبين لهم، إما أن يكون سمعه منه مباشرة، وهنا يقولون: قد صرح بالتحديث في رواية أخرى فأمنا تدليسه، وصار حديثه صحيحًا، وأحيانًا يظهر أنه يوجد واسطة بينه وبين ذلك المروي عنه الصحابي ... فيظهر حينئذ بالوساطة إن كان ثقة صح حديثه؛ لأنه يروى ثقة عن ثقة عن الصحابي، فإذًا: لا يتبادرن إلى ذهن أحد حين يسمع في محاضرة ما: إن فلانًا يدلس، لا يتسابق إلى ذهنه أن هذا طعن فيه .. في عدالته، لا وإنما هذا اصطلاح عند علماء الحديث لدقتهم في الرواية أن لا يؤخذ عمن عرف بهذا النوع من التدليس إلا إذا صرح بالتحديث.