إنه إذا تعارض نَصَّان صحيحان، أحدهما من فعله عليه السلام، والآخر من قوله، ولم يُمْكِن التوفيق بوجه من وجوه التوفيق بينهما، صير إلى القول، واعتُمد عليه، وتُرك الفعل، لأنه يحتمل وُجُوهًا منها: أن يكون ذلك لعذر، أو أن يكون قبل تشريع ما جاء في القول، في الحديث القولي أو يكون ذلك خصوصية من خصوصيات الرسول.
فأفعاله -عليه السلام- يعتريها ويحيط بها من الاحتمالات ما لا يحيط بالقول، لأن قوله عليه السلام تشريع عام للأمة.
وهذا إذا ثبت أن الفعل كان متأخرا عن القول، وإذا لم يثبت ذلك فهيهات أن يُمْكِن نسخ القول بالفعل.
وهناك شيء آخر: لا يمكن نسخ قول بفعل، لو تأخر فعلُه عليه السلام عن قوله، ما دام ذلك القول مُعَلَّلٌ بعلةٍ لا تَقْبَل النسخ.
قوله عليه السلام -السابق الذكر- «وإذا صلى جالسا، فصلُّوا جلوساً أجمعين» جاء تعليلُه في «صحيح مسلم» من روايةِ جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان راكباً يوماً دابتَه فجحشت به، فأُصِيب في أكحله، فحضرت صلاة الظهر وصلى جالساً، فصلى الناس خلفه قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا فجلسوا، ثم قال عليه السلام بعد أن قضى صلاته «إن كدتم آنفا تفعلون فعلَ فارسَ بعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم، إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به» وذكر الحديث إلى نهايته: «وإذا صلَّى جالسا فصلُّوا جلوساً أجمعين».
في هذا الحديث فائدة هامة، وهي أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر القائمين خلفه والمؤتمين به أن يجلسوا، لإطفاء هذه الظاهرة الوثنية، التي تظهر من بعض كفرة الملوك المشركين، علماً: أن ثمة فارقاً كبيراً جداً بين تلك الظاهرة وبين هذه الهيئة التي وقعت للصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أمر واضح -إن شاء الله-.
لكن لا بأس من التذكير: كسرى -وأمثالُه من الجبابرة- حينما يجلس ويقوم