للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ دَلِيلِهِ. وَأَدَقُّ مَا قِيل فِي تَعْرِيفِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: (١) " إِنَّ الاِجْتِهَادَ هُوَ بَذْل الطَّاقَةِ مِنْ الْفَقِيهِ فِي تَحْصِيل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ ".

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَسَائِل الظَّنِّيَّةِ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَّفِقُ مَعَ الْفِقْهِ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ يَتَنَاوَل بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْقَطْعِيَّةَ الَّتِي تَتَنَاوَل الأَْفْعَال، كَقَوْلِهِمْ: الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَبَيَانُ مَسَائِل الاِجْتِهَادِ بِالتَّفْصِيل سَتَكُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ لِهَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ.

١٠ - يَثُورُ بِمُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ عَنْ الأَْحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ الاِجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا تَسَاؤُلٌ حَاصِلُهُ: أَمَا كَانَ الأَْجْدَرُ أَنْ تَأْتِيَ النُّصُوصُ وَالأَْدِلَّةُ قَطْعِيَّةً حَتَّى لاَ يُفْتَحَ بَابُ الاِخْتِلاَفِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ الْخِلاَفِ وَالشِّقَاقِ بَيْنَ أَهْل الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى اسْتَبَاحَ بَعْضُهُمْ دَمَ بَعْضٍ؟ ! ! فَنَقُول، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ:

إِنَّ الأَْحْكَامَ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ سَوَاءٌ مَا يَتَّصِل مِنْهَا بِالْعَقِيدَةِ أَوِ الأُْمُورِ الْعَمَلِيَّةِ قَدْ وَرَدَتْ فِي آيَاتٍ مُحْكَمَةٍ لاَ تَحْتَمِل التَّأْوِيل وَلاَ تُثِيرُ الاِخْتِلاَفَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأُْمُورُ ثَابِتَةً عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ، كَأَكْثَرِ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَأُصُول أَحْكَامِ الأَْحْوَال الشَّخْصِيَّةِ، وَآيَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

أَمَّا الْمَسَائِل الْقَابِلَةُ لِلتَّطَوُّرِ فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي شَأْنِهَا مُوَضِّحًا الْخُطُوطَ الرَّئِيسَةَ، وَكَانَتْ مَحَلًّا لاِخْتِلاَفِ الأَْنْظَارِ. وَاخْتِلاَفُ النَّظَرِ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى الْهَوَى وَالتَّشَهِّي - فَهُوَ رَحْمَةٌ لِلأُْمَّةِ، فَقَدِيمًا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الاِخْتِلاَفُ سَبَبًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَانَ يَرَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ مَعَ


(١) هو محب الله بن عبد الشكور البهاري، من علماء الهند المتوفى سنة ١١١٩ هـ وسنة ١٧٠٧ م. ويعتبر هذا الكتاب خاتمة ما كتب قديما في علم أصول الفقه. وقد جمع بين الطريقتين المشهورتين في تدوين هذا العلم، وهما طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية ٢ / ٣٦٢