للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنَاطِقِ الْخَلِيجِ، فَقَدْ كَانَتْ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُنْتَشِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَنَاطِقِ هِيَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُبَّمَا الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ وُجُودَ لِمُعْتَنِقِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً.

وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذْهَبٍ مَا أَوِ انْتِشَارَهُ يَعْتَمِدُ - أَوَّلاً وَقَبْل كُل شَيْءٍ - عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهِ وَدَأْبِهِمْ عَلَى نَشْرِهِ وَتَحْقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيْسِيرِ فَهْمِ هَذِهِ الْمَسَائِل بِحُسْنِ عَرْضِهَا.

التَّقْلِيدُ:

٣٦ - يُبَالِغُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ، وَرُبَّمَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْمُقَلِّدِينَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (١)

وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْمَسَائِل الأَْسَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَهِيَ الْمَعْلُومَةُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لاَ تَقْلِيدَ فِيهَا لِعَالِمٍ، مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهُ، بَل لاَ بُدَّ مِنِ اقْتِنَاعٍ تَامٍّ بِثُبُوتِهَا عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِصِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ. أَمَّا الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ النَّظَرَ فِي الأَْدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْعَامَّةِ بِالنَّظَرِ فِي الأَْدِلَّةِ تَكْلِيفٌ شَاقٌّ لاَ تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، إِذْ لَوْ كَلَّفْنَا كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُل مَسْأَلَةٍ نَظْرَةَ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ سَتَتَعَطَّل، وَمَصَالِحَ النَّاسِ سَتُهْمَل. وَمَا لَنَا نُطِيل الْكَلاَمَ فِي ذَلِكَ وَسَلَفُ الأُْمَّةِ - وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ كَمَا شَهِدَ لَهُمْ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ، بَل كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ قِلَّةً قَلِيلَةً، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُونَ الثَّلاَثَةَ عَشَرَ شَخْصًا.

عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْتَهِدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ مَتَى تَوَفَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُهُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الَّتِي سَنُبَيِّنُهَا بِالتَّفْصِيل - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ لِهَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ.


(١) سورة الزخرف / ٢٣