للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَالأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أَوَّل دَرَجَاتِ الْكَمَال، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالاِعْتِدَال فِي لِسَانِ الشَّرْعِ. وَالْقَاصِرَةُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْل بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ إِحْدَاهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَال.

ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الأَْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ الأَْدَاءِ، وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الأَْدَاءِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ الإِْنْسَانِ الأَْدَاءَ فِي أَوَّل أَحْوَالِهِ؛ إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ أَصْلاً، وَإِلْزَامُ مَا لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَبَعْدَ وُجُودِ أَصْل الْعَقْل وَأَصْل قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْل الْكَمَال، فَفِي إِلْزَامِ الأَْدَاءِ حَرَجٌ؛ لأَِنَّهُ يُحْرِجُ الْفَهْمَ بِأَدْنَى عَقْلِهِ، وَيُثْقِل عَلَيْهِ الأَْدَاءَ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ، وَالْحَرَجُ مُنْتَفٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (١) فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا لأَِوَّل أَمْرِهِ حِكْمَةً، وَلأَِوَّل مَا يَعْقِل وَيَقْدِرُ رَحْمَةً، إِلَى أَنْ يَعْتَدِل عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ، فَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَل بِهِ.

ثُمَّ وَقْتُ الاِعْتِدَال يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ الَّذِي تَعْتَدِل لَدَيْهِ الْعُقُول فِي الأَْغْلَبِ مَقَامَ اعْتِدَال الْعَقْل حَقِيقَةً، تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ تَوَهُّمُ وَصْفِ الْكَمَال قَبْل هَذَا الْحَدِّ، وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ الْقُصُورِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطِي الاِعْتِبَارِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ (٢) .


(١) سورة الحج / ٧٨.
(٢) حديث: " رفع القلم على ثلاث. . . " أخرجه أحمد بن حنبل وأبو داود والحاكم بهذا المعنى. وقال المناوي: أو رده الحافظ ابن حجر من طرق عديدة بألفاظ متقاربة ثم قال: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا. وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده حسن، وهو حديث صحيح بطرقه. (فيض القدير ٤ / ٣٤، وسنن أبي داود ٤ / ٥٥٨ وما بعدها ط عزت عبيد دعاس، والمستدرك ٤ / ٣٨٩، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط ٣ / ٥٠٦، ٥٠٧) .