تعلم أهل الفضل الصنائع، فإن العمل بها لا ينقص بمرتبتهم، بل ذلك زيادة في فضلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وفي الحديث:"إن خير ما أكل المرء من عمل يده".
{وَقَدِّرْ}؛ أي: واقتصد وتوسَّطْ {فِي السَّرْدِ}؛ أي: في نسج الدروع بحيث تناسب مساميرها لحلقاتها؛ أي: لا تجعل مسمار الدرع دقيقًا فيقلقل، ولا غليظًا فيفصم الحلق، أو المعنى: توسط عند نسج الدروع في حلقاتها؛ أي: لا تعملها صغيرة، فتضعف، ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة، فتثقل على لابسها، أو المعنى: اجعل (١) كل حلقة مساوية لأختها، ضيقة، لا ينفذ منها السهم لغلظها, ولا تثقل حاملها، واجعل كلها بنسبة واحدة، وقدر واحد. أو المعنى: قدر وتوسط في سرد الدروع ونسجها, ولا تصرف جميع أوقاتك إلى نسج الدروع، بل اشتغل به مقدار ما تحصل به قوتك وحوائجك، وأما باقي الأوقات .. فاصرفه إلى عبادة ربك.
قال الرازي: أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب، وإنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة، فقدر في ذلك العمل، ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب، بل حصِّل فيه القوت فحسب. انتهى.
وهذا المعنى هو المناسب لما بعده، وهو قوله:{وَاعْمَلُوا} يا آل داود، خطاب له ولأهله لعموم التكليف، ويجوز أن يكون أمرًا لداود فقط؛ شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع. {صَالِحًا}؛ أي: عملًا صالحًا خالصًا من الأغراض {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا أضيع عمل عامل منكم، فأجازيكم عليه، وهو تعليل للأمر، أو لوجوب الامتثال به، والبصير: هو المدرك لكل موجود برؤيته، ومن عرف أنه البصير .. راقبه في الحركات والسكنات، حتى لا يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق، فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مئة مرة .. فتح الله بصيرته، ووفَّقه لصالح القول والعمل، وإن كان الإنسان لا يخلو عن الخطأ.