للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والمعنى: أي قال نوح وأصحابه: بَعِدُوا بُعْدًا من رحمة الله للقوم المشركين، بحيث لا يرجَى عودهم، وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأنَّ الغالبَ ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة إذا هلكوا ونجا منهم قالَ مثْلَ هذا الكلام، وهذا من الكلمات التي تختص بدعاء السوء، ووَصَفهم بالظلم، للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}.

فإنْ قلتَ (١): كيف اقتضَتْ الحكمة الإلهية، والكرمُ العظيم إِغراقَ مَنْ لم يبلغوا الحلم من الأطفال، ولم يَدْخلوا تحت التكليف بذنوبِ غيرهم؟

قلت: الجواب الشافي عن هذا أنْ يقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى متصرِّف في خَلْقِهِ، وهو المالك المطلقُ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسْألُ عما يفعل، وهم يسألون، لا ما قيل: من أن الله عَزَّ وَجَلَّ أعْقَمَ أَرْحَامَ نسائهم أربعين سنة، فلَمْ يُولد لهم ولد في تلك المدَّة، لأنَّ هذا الجواب ليس بقويٍّ لأنه يَرِدُ عليه إغراقَ جميع الدواب والهوام والطير.

قال العلماء بالسير (٢): لمَّا استقرت السفينةُ بَعَثَ نوحٌ الغرابَ ليأتِيَه بخبر الأرض، فوقع على جيفة، فلم يرجع إليه، فبَعَثَ الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها, ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوحٌ أن الماءَ قد ذهَبَ، فدعا على الغراب بالخوفِ فلذلك لا يألف البيوتَ، وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها، ودعا لها بالأمان فمن ثم تَأْلَفُ البيوت.

٤٥ - {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة، ودَعاهُ إليها فلم يستجب، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي} هذا {مِنْ أَهْلِي} الذي وعدَتنِي بنجاتهم، إذ أمرتني بحَمْلهم في السفينة {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الذي لا خلف فيه {وَأَنْتَ} يا إلهي {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: خير الحاكمينَ بالحق، وأفضلُهم كما قلتَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، فلا يعرض له الخطأ، ولا الحَيف، ولا الظلم.


(١) الخازن.
(٢) الخازن.