للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من بين يديه ولا من خلفه

٤٨ - {قِيلَ}؛ أي: قال الذي (١) بيده ملكوت كل شيء ومدبر أمر العالم كلّه لنوح بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابْتَلَعَت الأرْضُ ماءَها، وصَارَت السكنى على الأرض، والعملُ عليها سَهْلًا مُمْكِنًا، {يَا نُوحُ اهْبِطْ} وانزل من الجودي الذي استوَتْ عليه السفينة، وقرىء {اهبط} بضم الباء ممتعًا {بِسَلَامٍ}؛ أي: بسلامةٍ وتحية وأمن {مِنَّا} كما قال تعالى {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩)}، وذلك أنَّ الغَرَق لما كان عَامًّا في جميع الأرض، فعندما خَرَجَ نوح عليه السلام من السفينة عَلِمَ أنه ليس في الأرض شيءٌ مما ينتفع به من النبات والحيوانات، وقيل: فكان كالخائف في أنه كيف يَعِيش، وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلَمَّا قَالَ الله له: اهبط بسلام مِنَّا زَالَ عَنْهُ الخَوْفُ؛ لأن ذلك يَدُلُّ على حصول السلامة، وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق {وَبَرَكَاتٍ} في المعايش والأرزاق، وقيل: أي: ونعم ثابتة، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته، ومغفرة زلته، وحَكَى عبد العزيز بن يحيى {وبركة} على التوحيد عن الكسائي؛ أي: وبركات فائضة {عَلَيْكَ} وعلى مَن مَعَكَ في السفينة، {وَعَلَى أُمَمٍ} مؤمنة ناشئة {مِمَّنْ مَعَكَ} في السفينة؛ أي: وعلى ذريات يتناسلون منهم، ويتفرقون في الأرض، فيكونون أُمَمًا مستقلًا بعضها من بعض، يعني بهؤلاء المؤمنين من ذرياتهم، ولم يُعْقِبْ أحدٌ منهم إلَّا أولادَ نوح الثلاثةَ، فانحصر النوع الإنسانيُّ بعد نوح في ذريته، {وَأُمَمٌ} كافرة متناسلة ممن معك {سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا بالأرزاق، والبركات، ولا يصيبهم لطفٌ من ربهم ورحمة كما يصيب المؤمنين، فإنَّ الشَّيْطانَ سيغويهم، ويزين لهم الشرك، والظلمَ، والبغْيَ {ثُمَّ} بعد رجوعهم إلى ربهم {يَمَسُّهُمْ مِنَّا} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وَجيع، فيكون جزاؤُهم فيها دارَ البوار، وبئس القرار.

٤٩ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا قصَصٌ من عالم الغيب لا يعرفه هو، ولا قوْمُه من قبل، فقال: {تِلْكَ}؛ أي: هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}؛ أي: من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى


(١) المراغي.