وهم أحبار اليهود. والمراد بذلك النصيب: ما بُيِّن لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة الإِسلام. والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقًّا من حقوقهم التي تجب مراعاتها والعمل بموجبها حال كونهم {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: التوراة {لِيَحْكُمَ} ذلك الكتاب {بَيْنَهُمْ} والداعي لهم هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقرىء شذوذًا:(ليُحكَم) بالبناء للمفعول. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ أي: ثم يُدبر جماعة منهم عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؛ أي: والحال أنهم معرضون بقلوبهم عن قبول حكم ذلك الكتاب مكذبون له، وذلك أنهم أنكروا آية الرجم من التوراة، وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حد المحْصَنَين إذا زنيا، فحكم بالرجم، فقالوا: جُرت يا محمَّد، فقال: بيني وبينكم التوراة، ثم أتوا بابن صوريا، فقرأ التوراة، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفه عنها، وقرأها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى اليهود فإذا فيها:"إن المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البينة .. رُجما، وإن كانت المرأة حبلى .. تتربص حتى تضع ما في بطنها". فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليهوديين، فرُجما، فغضبت اليهود لذلك وانصرفوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ...} إلخ. والقصة مذكورة في "صحيح البخاري" في كتاب التفسير.
٢٤ - {ذَلِكَ} التولي والإعراض {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ}؛ أي؛ لن تصيبنا النار في الآخرة {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}؛ أي: أيامًا قلائل ومدة يسيرة - أربعين يومًا مدة عبادتهم العجل - ثم يخرجون منها {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ}؛ أي: في ثباتهم على دينهم اليهودية {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي؛ يختلقون من الكذب من قولهم: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات، وإن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
وخلاصة ذلك: أنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالًا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادًا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كافٍ في نجاتهم. ومن استخف بوعيد الله زعمًا منه أنه غير نازل حتمًا بمن يستحقه .. تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك