للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وخلاصة هذا: أنهم لما سمعوا منه، ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليله إياهم، وشاهدوا منه الجد في القول، والغلظة فيه، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول: إن كان جادًّا، ثم ارتقوا من هذا، إلى بيان أنه هازل لاعبٌ، كما هو دأبه وعادته من قبل، ولا يقصد بذلك إظهار حق ألبتة. وفيه إشارة لطيفة، وهي كما أن أهل الصدق والطلب يرون أهل الدنيا لاعبين، والدنيا لعبًا ولهوًا، كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} كذلك أهل الدنيا، يرون أهل الدين لاعبين، والدين لعبًا ولهوًا.

٥٦ - فرد عليهم منتقلًا من تضليلهم في عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة مضربًا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد فـ {قَالَ} إبراهيم لهم: {بَلْ} جئتكم بالحق، لا باللعب {رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: إن ربكم ومالككم الذي يستحق منكم العبادة، مالك السموات والأرض {الَّذِي فَطَرَهُنَّ}؛ أي: أنشأ السموات والأرض، وخلقهن ابتداء من غير مثال سابق يحتذى، فهو الخالق كما أنه المربي. فالضمير (١) للسموات والأرض، أو للتماثيل؛ أي: فكيف تعبدون من كان من جملة المخلوقات.

وخلاصة هذا: أن الجدير بالعبادة، هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم، وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.

وفي هذا، إرشاد إلى أنه، ينبغي لهم أن يرعووا عن غيِّهم، ويعلموا من يستحق العبادة فيعبدونه، ويخضعون له وبذلك يهتدون إلى الطريق السوي.

ثم ختم مقاله: بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} الذي ذكرته لكم، من كون ربكم رب السموات والأرض فقط، دون ما عداه، كائنًا ما كان {مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: من العالمين به على الحقيقة المبرهنين عليه، وليس المراد حقيقة الشهادة؛ لأنه لا شهادة من المدعي، بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان؛ أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة، بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوي.


(١) روح البيان.