للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العفو من غير عوض أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود؛ فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى؛ فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية، وهذه الأمة خيِّرت بين القصاص وبين العفو والدية تخفيفًا من الله؛ إذ فيه انتفاع الولي بالدية، وحصول الأجر بالعفو، واستبقاء مهجة القاتل، وبذل ما سوى النفس هيِّنٌ في استبقائها، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب؛ لأنه المصلح لأحوال عباده الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية، وعطف {وَرَحْمَةٌ} على {تَخْفِيفٌ}؛ لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها .. فقد رحمك، وأي رحمة أعظم من استبقاء المهجة.

{فَمَنِ اعْتَدَى} على القاتل من أولياء الدم، وظلمه باقتصاصه منه {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعد عفوه، وأخذه الدية {فَلَهُ}؛ أي: فلذلك المعتدي {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: شديد الألم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بأن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه الدية، كما روي (١) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذه الدية".

١٧٩ - وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر .. أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص؛ لأن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به، فقال: {وَلَكُمْ فِي} مشروعية {الْقِصَاصِ} والقتل بقاءٌ و {حَيَاةٌ} هنيئة لكم وصيانة لأنفسكم من اعتداء بعضكم على بعض؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها .. يرتدع عن القتل، فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع؛ إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه، وعبارة "الخازن": {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هذا الحكم غير مختص بالقصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح، والشجاج، وغير ذلك؛ لأن الجارح إذا علم أنه إذا جَرَحَ جُرِح .. لم يَجْرح، فيصير ذلك سببًا لبقاء الجارح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت؛ فيقتص من الجارح. انتهى.


(١) البيضاوي.