النبي الأمي الذي لم يقرأ الكتب، ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم، ولا يجدون من إنكاره محيصًا. وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا، وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم.
٩٤ - وفي الآية: دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك {فَمَنِ افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بزعمه أن ذلك كان محرمًا على الأنبياء السابقين كإبراهيم، ونوح، وعلى أممهم قبل نزول التوراة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ما ظهرت الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا على عهد إبراهيم، أو من جهة ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا.
ومن بعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئًا قبل نزولها، {فَأُولَئِكَ} المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت لهم حقيقة الحال {هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم، ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم الذين لا ينصفون من أنفسهم، ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم؛ لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا، وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
٩٥ - {قُل} لهم يا محمد {صَدَقَ اللَّهُ} فيما أنبأني به من أن سائر الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذلك قامت عليكم الحجة، وثبت أني مبلغ عنه إذ ما كان في استطاعتي، لولا الوحي أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم، والجمهور على إظهار في {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} وهو الأصل، وقرأ أبان بن تغلب شذوذًا بإدغام اللام في الصاد. {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} التي هي ملة الإسلام التي أنا عليها حالة كون إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: من الذين أشركوا بالله غيره، وعبدوا سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادعائهم أن عزيرًا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.
وخلاصة هذا: أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام