للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

{وَهُمْ ظَالِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم ظالمون بالكفران والتكذيب، حيث جعلوا الأول موضع الشكر والثاني موضع التصديق، وفي هذا إيماء (١) إلى تماديهم في الكفر والعناد، وإلى أن ترتب العذاب على التكذيب جري على سنة الله تعالى كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وهكذا حال أهل مكة فإنهم كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم، ولا يمر بهم طيف من الخوف، ولا يزعج قلوبهم مزعج، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء، من جميع الأقطار من بر وبحر، فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق، قال بعضهم من بحر الرجز:

ثَلاَثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَه ... الأَمْنُ والصِحَّةُ والكفايَة

وقد جاءهم رسول من أنفسهم، فأنذرهم وحذَّرهم، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بدعاء رسول - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فاضطروا إلى أكل الجيف، والكلاب الميتة، والعظام المحرقة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب، وقد جعل الله الجوع والخوف اللذين خالط ضررهما أجسامهم لباسًا لهم لأن أثرهما وضررهما قد أحاط بهم من كل جانب، فأشبها اللباس الذي يغطي الجسم ويحيط به، وجعل إصابتهم بهما إذاقة دلالة على شدة تأثيرهما الشديد الذي حدث فيهم، كما يكون ذلك حين ذوق شيء مر بشع كريه، إذ يجد الذائق تقززًا واشمئزازًا.

١١٤ - ثم لمَّا (٢) وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة .. أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم وغيرها، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبِّب عن ترك الكفر، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ} والفاء فيه فاء الفصيحة، والخطاب للمؤمنين على الراجح؛ أي: إذا عرفتم أيها المؤمنين ما حلَّ


(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.