للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فِي نَفْسِكَ}؛ أي: ما كان منك لهم من الخذلان، وقيل: تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه، ولا أعلم حقيقة ذاتك ولا ما احتوت عليه من صفات الكمال.

واعلم: أنهم اختلفوا في إطلاق النفس على الله تعالى، فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة؛ إذ ورد إطلاقها في غير المشاكلة قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ذكره الصاوي.

والمعنى: أن ذلك القول إن كان قد صدر مني .. فقد علمته؛ إذ علمك واسع محيط بكل شيء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه مني غيري، كما أني لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لم ترشدني إليها بالكسب والاستدلال، لكني أعلم ما تظهره لي بالوحي بواسطة ملائكتك المقربين إليك {إِنَّكَ} يا إلهي {أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؛ أي: إنك أنت العالم بالخفايا عن العباد؛ لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحي والإلهام. فقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (١) يدل بمنطوقه على أنه تعالى يعلم الغيب، فيكون مقررًا لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، ويدل بمفهومه على أنه لا يعلم الغيب غيره، فيكون مقررًا لقوله: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ودل بتصدير الجملة بـ {إنّ}، وتوسط ضمير الفصل، وبناء المبالغة، والجمع المعرف باللام أن شيئًا لا يعزب عن علمه ألبتة كما هو مقرر في محله.

١١٧ - وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك .. بيَّن حقيقة ما قاله لقومه؛ إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفي ضده، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}؛ أي: ما قلت لهم إلا قولًا أمرتني به. وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} عطف (٢) بيان للضمير في {بِهِ}، أو بدل منه، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل


(١) الفتوحات.
(٢) البيضاوي.