وقوله:{إِذْ أَرْسَلْنَاهُ} ظرف لـ {جَعَلْنَا} المقدّر؛ أي: وجعلنا في إرسال موسي، وإنجائه مع قومه، وإهلاك فرعرن وقومه آية للذين يخافون العذاب الأليم وقت إرسالنا إيّاه. {إِلَى فِرْعَوْنَ} صاحب مصر حال كون موسى متلبسًا {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة ظاهرة دالة على صدقه. وهو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة: كالعصا، واليد البيضاء، وغيرهما. والسلطان مصدر يطلق على المتعدد.
٣٩ - {فَتَوَلَّى} فرعون {بِرُكْنِهِ}؛ أي: ثنى بعطفه وجانبه. وهو كناية عن الإعراض؛ أي: فأعرض عن الإيمان به وازورَّ، فالتولي بمعنى الإعراض، والباء في {بِرُكْنِهِ} للتعدية كما في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. فإنها معدية لـ {نَأَى} بمعنى بعد. فيكون الركن بمعنى الطرف والجانب، والمراد بهما: نفسه؛ أي: أعرض بنفسه عن الإيمان بموسى. فإنه كثيرًا ما يعبر بطرف الشيء وجانبه عن نفسه، وفي "الصحاح": ركن الشيء جانبه الأقوى كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان. وقيل: فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره. فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان، ولكن من مال، وجند، وقوة، فالركن مستعار لجنوده تشبيهًا لهم بالركن الذي يتقوى به البنيان، وعلى هذا الباء للسببية، أو للملابسة والمصاحبة.
{وَقَالَ} فرعون في حق موسى هو؛ أي: موسى {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحرًا أو مجنونًا، وهذا (١) من اللعين مغالطة وإبهام لقومه, فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر، ولا يفعله من به جنون، وقيل: إن {أَوْ} بمعنى الواو, لأنّه قد قال ذلك جميعًا، ولم يتردد. قاله المؤرج والفراء كقوله:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}.
٤٠ - {فَأَخَذْنَاهُ}؛ أي: أخذنا فرعون {وَجُنُودَهُ}؛ أي: قومه وعساكره {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}؛ أي: فطرحناهم في بحر القلزم مع كثرتهم، كما يطرح أحدكم فيه حصيات أخذهن في كفه، لا يبالي بها، وبزوالها عنه. {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: أخذناه، والحال أنه آت بما يلام عليه صغيرةً أو كثيرةً، حيث كذب الرسل، وادعى الربوبية, إذ كل صاحب ذنب ملوم على مقدار ذنبه.