وإشارة إلى أنهم لا يرحمون في الدارين؛ لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره، ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال:{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: فسيتبين لكم من الضال منا ومن المهتدي، ولمن تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. وقرأ الجمهور {فَسَتَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب، نظرًا إلى الخطاب في قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ}. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر نظرًا إلى قوله:{فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ}.
٣٠ - ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره .. أقام الدليل على ذلك؛ فقال آمرًا رسوله أن يقول لهم:{قُلْ} لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ} أي: إن صار ماؤكم الذي تشربونه وتنتفعون به. وكان ماء أهل مكة من بئرين: بئر زمزم، وبئر ميمون الحضرمي. {غَوْرًا} خبر أصبح، وهو مصدر وصف به؛ أي: غائرًا في الأرض بالكلية ذاهبًا ونازلًا فيها، وقيل: بحيث لا تناله الدلاء، ولا يمكن لكم نيله بنوع حيلة، كما يدل عليه الوصف بالمصدر. {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} على ضعفكم حينئذٍ {بِمَاءٍ مَعِينٍ}؛ أي: بماء جار على وجه الأرض من عان الماء من باب باع أو من معن، كلاهما بمعنى جرى، وقيل: معن بمعنى كثر، وعان بمعنى جرى، والمعنيان متقاربان. أو ظاهر للعيون سهل المأخذ، يعني: تناوله الأيدي، فهو على هذا اسم مفعول من العين بمعنى الباصرة كمبيع من البيع.
ولعل تكرير الأمر بـ {قُلْ} لتأكيد المقول، وتنشيط المقول له. فإن قلت: كيف خص ذكرًا لنعمته بالماء من بين سائر نعمه؟ قلت: لأن الماء أهون موجود وأعز مفقود؛ كما في "الأسئلة المقحمة"، روي: أن هذه الآية تليت عند بعض المستهزئين، فقال: تجيء به الفؤوس والمعاويل فذهب ماء عينيه، نعوذ بالله من الجراءة على الله وبيناته وترك حرمة القرآن وآياته، وإنّما عوقب بذهاب ماء عينيه؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل. وقرأ ابن عباس {فمن يأتيكم بماء عذب}.
والمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني يا أهل مكة إن ذهب ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء فمني يأتيكم بماء جار تشربونه عذبًا زلالًا، ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله سبحانه، وإذًا فلم تجعلون ما لا يقدر على شيء شريكًا في العبادة لمن هو قادر على كلّ شيء؟! وفي هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.