يستطيع أن يأتيهم من فوقهم؛ لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. وقال النسفي: ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم؛ لمكان الرحمة والسجدة وَلا تَجِدُ يا رب {أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر بني آدم {شاكِرِينَ} لك على نعمك التي أنعمت بها عليهم في عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفي كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك، وقد قال إبليس ذلك عن ظن، فأصاب لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)}. وقيل: رآه في اللوح المحفوظ، وقيل: سمعه من الملائكة، وقيل: معنى {شاكِرِينَ} مطيعين لك، أو مؤمنين بك.
قال أبو حيان (١): والظاهر أن إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له، والجد في إضلاله من كل وجه يمكن، ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدو غالبا ذكرها، لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة، وإنما خص بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان؛ لأنهما أغلب ما يجيء العدو منهما، فينال فرصته وقدم بين الأيدي على الخلف؛ لأنها الجهة التي تدل على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه، والخلف من جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القرن بمن يغتاله، ويتطلب غرته وغفلته، وخص الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدل على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقدمت الأيمان على الشمائل؛ لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدو، وبالأيمان البطش والدفع، فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالإيمان انتهى.
١٨ - {قالَ} سبحانه وتعالى لإبليس اللعين حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، وذلك بسبب مخالفته وعصيانه {اخْرُجْ} يا إبليس {مِنْها}؛ أي: من الجنة،