وقال في شأنهم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩)}. وقال حكاية عن فرعون في موسى عليه السلام: {قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)}. وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)}. {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلّم {إِلَّا} رسول {نَذِيرٌ}؛ أي: مخوف من عذاب الله لمن كذب به {مُبِينٌ}؛ أي: مظهر لهم في التخويف بلغة يعرفونها؛ أي: إنّه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح، ومبلغ عن الله تعالى، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم في الدنيا بجمع الكلمة، وصلاح حال الفرد والمجتمع، والسيادة على من سواكم، وصلاحكم في الآخرة بلقاء ربكم وأنتم في جنان النعيم.
ولو تأمل مشركوا مكة في نشأته صلى الله عليه وسلّم - وما جربوا من أمانته وصدقه - إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح في حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية .. لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل، ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأي ذلك النبي الأمي الناشىء بين الأميين، وأنّ ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على ما يدعي لا يصدر ممن لم يناظر، ولم يفاخر، ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
١٨٥ - والهمزة في قوله:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} للاستفهام التوبيخي التعجبي، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أكذبوا الرسول الذي علموا صدقة وأمانته وقالوا: إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال في هذا الكون العظيم من السموات والأرض، فيروا ذلك النظام البديع فيهما الدال على القدرة الباهرة والحكمة الظاهرة {وَ} لم ينظروا في {ما خَلَقَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى فيهما {مِنْ شَيْءٍ} من الأجناس التي لا يحصرها عدد، وإن دق وصغر، فإنّهم لو تأملوا