عليهم، من غير توبيخ؛ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبًا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي، {مَتَاعُ الدُّنْيَا}؛ أي: منفعة الدنيا ولذاتها {قَلِيلٌ} لأنه سريع الزوال، ووشيك الانصرام، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل {وَالْآخِرَةُ}؛ أي: ثوابها الباقي وجزاؤها، لا سيما المنوط بالقتال، {خَيْرٌ} من ذلك المتاع الفاني، {لِمَنِ اتَّقَى} الله تعالى، وامتثل أوامره، واجتنب الكفر والفواحش؛ لأن نعم الأخرة كثيرة، ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب، ويقينية بخلاف نعم الدنيا؛ فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني، ومشوبة بالمكاره، {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ أي: ولا تنقصون من أجور أعمالكم أدنى شيء، ولو كان قدر فتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
قال في "التسهيل": إن الآية في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمرو به .. كرهوه، لا شكًّا في دينهم، ولكن خوفًا من الموت، كما مر هذا القول، وقيل: الآية في المنافقين، وهو أليق بسياق الكلام، واختار القرطبي وأبو حيان هذا القول وهو الأرجح، قال في "البحر": الظاهر أن القائلين هذا هم منافقون؛ لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}، وهذا لا يصدر إلا من منافق انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير (١): {وَلَا يُظْلَمُونَ} بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات، ثم رغبهم في القتال،
٧٨ - وبين لهم أن الموت مصير كل شيء، فقال:{أَيْنَمَا تَكُونُوا}؛ أي: في أي مكان وجدتم وحصلتم فيه، سواء كان برًّا أو بحرًا، سفرًا أو حضرًا {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}؛ أي: يأخذكم الموت الذي تكرهون لأجله القتال، زعمًا منكم أنه من محله، ويقع بكم لا محالة، {وَلَوْ كُنْتُمْ} متحصنين منه {فِي بُرُوجٍ} وحصون {مُشَيَّدَةٍ}؛ أي: مطولة مرتفعة قوية بالجص والنورة، فلا تخشوا القتال لأجله، ولا تتمتوا هذا التأخير الذي سألتم؛