بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى .. لم يكن ذلك مجانبًا للصواب ولا معارضًا للعقل، ولا ناقضًا لما يثبته العلم، أو قلنا: بأن نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك .. لا نبعد عن العقل، ولا عن العلم؛ إذ لا خلاف بين العلماء في أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه. وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث في كنهه أو صفته ما دام ذلك داخلًا في حيز الإمكان.
٩٧ - وقوله:{قَالُوا يَا أَبَانَا} مرتب على محذوف تقديره: ولما رجع أولاد يعقوب من مصر، ووصلوا إلى أبيهم إثر مجيء البشير قالوا يا أبانا:{اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ أي: اسأل الله سبحانه وتعالى، واطلب منه أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}؛ أي: متعمدين لهذه الخطيئة عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قومًا صالحين، الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه.
وإنما سألوه المغفرة (١)؛ لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لا يسقط المأثم عنهم إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلمًا في نفسه أو ماله، أو غير ذلك ظالمًا له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها، والله أعلم.
وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء .. فليحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه".