للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

١٠٩ - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد {إِلَّا رِجَالًا} مثلك لا ملائكة، فهذا رد لقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} قالوا ذلك تعجبًا وإنكارًا لنبوته - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: كيف يتعججون من إرسالنا إياك، والحال أن من قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك ولم يتعجبوا منهم، فكيف تعجبوا من إرسالك؛ لأن الاستفادة منوطة بالجنسية، وبين البشر والملك مباينة من جهة اللطافة والكثافة، ولو أرسل ملك .. لكان في صورة البشر كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}. وقس عليه الجن؛ فلا يكون من الجن رسول إلى البشر. وفي عبارة الرجال دلالة على أنَّ الله تعالى ما بعث رسولًا إلى الخلق من النسوان؛ لأن مبنى حالهن على التستر، ومنتهى كمالهن هي الصديقية لا النبوة، فمنها آسية ومريم وخديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن.

وجملة قوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} صفة أولى لـ {رَجُلًا}؛ أي: نوحي إليهم على لسان الملك كما نوحي إليك. وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} صفة ثانية له، وكأن (١) تقديم هذه الصفة على ما قبلها أكثر استعمالًا؛ لأنها أقرب إلى المفرد؛ أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لغلبة الجهل والقسوة والجفاء عليهم. والمراد بالقرية: الحضر خلاف البادية، فتشمل المصر الجامع وغيره؛ لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلًا من أهل البوادي. قال الحسن: لم يبعث نبيٌّ من بدو ولا من الجن ولا من النساء. والمعنى: كيف تعجَّبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك!.

فإن قلت: (٢) إن قوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعارضه قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}؛ لأنه يقتضي أن يعقوب وأولاده كانوا من أهل البادية.

قلت: لم يكن يعقوب وأولاده من أهل البادية، بل خرجوا إليها لمواشيهم. وقرأ أبو (٣) عبد الرحمن وطلحة وحفص: {نُوحِي} - بالنون وكسر الحاء - مبنيًّا


(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.