وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم فاختاروا الدنية، وقبلوا الجلاء عن الديار، واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لم، ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان.
وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال .. كذبهم تفصيلًا ليزيد تعجيب المخاطب من حالهم، وليبين لهم مبلغ خبث طويتهم. وشدة جبنهم وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لاكتها ألسنتهم، وقلوبهم منها براء، فقال:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ...} إلخ.
أي: والله! لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها .. لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج معهم من ديارهم ولئن قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .. لا ينصرونهم، ولئن نصروهم .. ليولن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير.
وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز؛ فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.
والخلاصة: أن بني النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم. ولو كانوا قد نصروهم .. لتركوا النصرة، وانهزموا، وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء.
١٣ - ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال فقال:{لَأَنْتُمْ} يا معشر المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً}؛ أي: مرهوبية {فِي صُدُورِهِمْ}؛ أي: في قلوب المنافقين، أو في صدور اليهود، أو صدور الجميع {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من رهبة الله، بمعنى: مرهوبيته، والرهبة: مخافة مع تحزّن واضطراب وهي هنا مصدر من المبنيّ للمفعول، وهو رهب؛ أي: أشد مرهوبية. وذلك لأن {أَنْتُمْ} خطاب للمسلمين، والخوف ليس واقعًا منهم بل من المنافقين، فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين. وهذه الجملة في المعنى كالتعليل لقوله:{لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} كأنه قال: إنهم لا يقدرون على مقاتلتكم، لأنكم أشد رهبة ... إلخ.