أي: صار هنيئًا سائغًا. وإسناد الهناءة إلى الأكل والشرب مجاز للمبالغة؛ لأنّها للمأكول والمشروب. وقولهم:{هَنِيئًا} عند شرب الماء ونحوه بمعنى صحة وعافية؛ لأن السائغ محظوظ منه بسبب الصحة والعافية غالبًا. {بِمَا أَسْلَفْتُمْ}؛ أي: بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة أو بدله أو بسببه. ومعنى الإسلاف في اللغة: تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير، فهو كالإقراض، ومنه: يقال: أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله، وأسلم. {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}؛ أي: الماضية في الدنيا. وعن مجاهد: أيام الصيام، فيكون المعنى: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله في أيام الصيام لا سيما في الأيام الحارة، وهو الأولى؛ لأن الجزاء لا بد وأن يكون من جنس العمل وملائمًا له.
والمعنى: أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتي من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها أكلًا وشربًا هنيئًا، لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله وثوابًا على ما قدمتم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.
٢٥ - {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ} وأعطي {كِتَابَهُ}؛ أي: كتاب أعماله {بشِمَالِه} تحقيرًا له؛ لأنّ الشمال يتشاءم بها بأن تلوى يساره إلى خلف ظهره، فيأخذه بها، ويرى ما فيه من قبائح الأعمال. {فَيَقُولُ} تحزّنًا وتحسرًّا وخوفًا مما فيه من السيئات، وهو من قبيل الألم الروحانيّ الذي هو أشدّ من الألم الجسمانيّ. {يا} هؤلاء يا معشر المحشر {لَيْتَنِي} من التمني بالمحال؛ أي: أتمنّى أنّي {لَمْ أُوتَ} مضارع مبني للمتكلم المجهول من الإيتاء بمعنى لم أعط. {كِتَابِيَهْ}؛ أي: كتابي هذا الذي جمع جميع سيئاتي.
٢٦ - {وَلَمْ أَدْرِ} مضارع مبني للمتكلم المعلوم من الدراية بمعنى العلم، أي: ولم أعلم {مَا حِسَابِيَهْ}؛ أي: أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء عليه، لأن كله عليه. فـ {ما} استفهامية علق بها الفعل عن العمل، ويجوز أن تكون موصولة بتقدير المبتدأ في الصلة.
٢٧ - {يَا لَيْتَهَا} تكرير للتمني وتجديد للتحسر، أي: يا هؤلاء ليت الموتة التي متّها وذقتها {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}؛ أي: القاطعة لحياتي وأمري، ولم أبعث بعدها، ولم ألق ما ألقى. والمعنى: أنه تمنّى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب، فالضمير في {ليتها} يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها، وإن لم تكن مذكورة؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة.