الأرض يغور فيها، إلى مدى بعيد، لا تصلون إليه، ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا، ورحمتنا، ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه في الأرض، ونسلكه ينابيع فيها, لتسقوا به الزرع، والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.
وفي هذا تهديد شديد، لما يدل عليه، من قدرته سبحانه على إذهابه، وتغويره، حتى يهلك الناس بالعطش، وتهلك مواشيهم، ومثله قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠)}.
١٩ - ثم بيّن سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء، فقال:{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ}؛ أي: فأخرجنا لكم من الأرض به؛ أي: بسبب ذلك الماء، الذي أنزلناه من السماء {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}؛ أي: بساتين فيها نخيل، وأعناب، إنما ذكرهما الله سبحانه لكثرة منافعهما، فإنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإدام، ومقام الفواكه، رطبًا ويابسًا، وقال ابن جرير: اقتصر سبحانه، على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة، وما يتصل بذلك، وقيل: لأنها أشرف الأشجار ثمرةً وأطيبها منفعةً، وطعمًا ولذَّةً {لَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} من أنواع شتى، تتفكهون بها، وتتطعمون منها، زيادةً على ثمرات النخيل، والأعناب: كالزيتون والرمان، والتفاح والموز، وغيرها.
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة، على ماذا يطلق؟ اختلافًا كثيرًا، وأحسن ما قيل: إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم، ولا طعام، ولا إدام، واختلف في البقول، هل تدخل في الفاكهة أم لا؟ {وَمِنْهَا}؛ أي: ومن تلك الجنات حبوبها وثمارها {تَأْكُلُونَ} تغذيًا، أو ترزقون، وتحصلون معايشكم من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها.
٢٠ - {وَشَجَرَةً} بالنصب عطف على جنات، وتخصيصها (١) بالذكر من بين سائر الأشجار، لاستقلالها بمنافع معروفة، قيل: هي أول شجرة، نبتت بعد الطوفان، وهي شجرة الزيتون، قال في "إنسان العيون": شجرة الزيتون، تعمر ثلاثة آلاف