للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الحال، إذ كان الإنسان لا ينفك من خلل يعتريه، وإن كان لا يحس به، كما ذكره في «المفردات». ففي كلامه تعريض وتورية. وقال ابن عطاء (١): إني سقيم من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام أو بصدد الموت. فإن من في عنقه الموت سقيم. وقد فوجىء رجل فاجتمع عليه الناس وقالوا: مات، وهو صحيح فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟. وأيًا ما كان فلم يقل إبراهيم إلا عن تأول. فإن العارف لا يقع في انتهاك الحرمة أبدًا. وكان ذلك من إبراهيم لذب عن دينه، وتوسل إلى إلزام قومه.

أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكر: نظر في النجوم. والمعنى هنا: فأطال إبراهيم الفكر فيما هو فيه {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)}؛ أي (٢): أحس بخروج مزاجي عن حال الاعتدال، ولا أرى في نفسي خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه، أن لا يخرج معهم في يوم عيدهم، حين طلبوا منه الخروج، لينفذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم، وإعلان الحرب عليهم، في عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقًا فيما يقول، إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذي بال، يخاف منه الخطر على نفسه، أن يكون مهمومًا مغمومًا مفكرًا في عاقبة ما يعمل.

٩٠ - وكان القوم يتطيرون من المريض (٣)، فلما سمعوا من إبراهيم ذلك، هربوا منه إلى معبدهم، وتركوه في بيت الأصنام فريدا ليس معه أحد، وذلك قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ}؛ أي: فتول قومه، وأعرضوا وتفرقوا عن إبراهيم {مُدْبِرِينَ}؛ أي: هاربين مخافة العدوى؛ أي: السراية، وتركوه في مكانه.

فائدة: قال عز الدين بن عبد السلام: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا. فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل


(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.