للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أنك قد انتقلت من أدنى المراتب إلى أعلى الدرجات وأرفعها, ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شيء خلقه، ثم زاد الأمر بيانًا بتعداد نعمه، فقال: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) أي: إن من صدر أمره بأن يكون رسوله - صلى الله عليه وسلم - قارئًا هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وممتاز به عن غيره من الحيوان، وكان في بدء أمره لا يعلم شيئًا، فهل من عجيب أن يعلمك القراءة ويعلمك كثيرًا من العلوم سواها، ونفسك مستعدة لقبول ذلك، وفي الآية دليل على فضك القراءة والكتابة والعلم، ولعمرك لولا القلم ما حُفظت العلوم، ولا أحصيت الجيوش، ولضاعت الديانات، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، ولما سجل تاريخ السابقين المسيئين منهم والمحسنين، ولا كان علمهم نبراسًا يهتدي به الخلف، ويُبنى عليه ما به ترقى الأمم وتتقدم المخترعات.

كما أن فيها دليلًا على أن الله سبحانه خلق الإنسان الحي الناطق فيما لا حياة فيه ولا نطق ولا شكل ولا صورة، وعلمه أفضل العلوم وهي الكتابة، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئًا، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان.

٦ - {كَلَّا} ردع (١) لمن كفر بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يسبق ذكره للمبالغة في الزجر فيوقف عليه، وقال السجاوندي: يوقف على {مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ لأنه بمعنى حقًا، ولذا وضع علامة الوقف عليه. {إِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: إن جنس الإنسان {لَيَطْغَى}؛ أي: ليتجاوز الحد ويستكبر على ربه، وهذا بيان للمردوع والمردوع عنه إن قلنا: إنها حرف ردع، قيل: إن هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل وأضرابه بعد زمان من نزول أول السورة، وهو الظاهر.

٧ - {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)} مفعول له؛ أي: يطغى لأن رأى وعلم نفسه مستغنيًا من أبصر غناه، والمراد أنه يريد طغيانه باستغنائه بالعشيرة والأنصار والأعوان والأموال، قال مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه، فذلك طغيانه، وكذلك قال الكلبي.

والرؤية هنا (٢): بمعنى العلم، ولو كانت بصرية لامتنع الجمع بين ضميرين لشيء واحد في فعلها؛ لأن ضمير الفاعل في {رَآهُ} وضمير المفعول عائدان على


(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.