أصيب بضر من فقر أو مرض .. جأر إلى الله، واستعان به لكشف ذلك الضرّ عنه، وإذا تغيرت الحال، ونال شيئًا من الرخاء، أو زال عنه ما به من العلة .. قال: إنما أوتيت هذا لعلمي بوجوه المكاسب، وجدّي واجتهادي، أو لذهابي إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج، فلم أدخر دواء نافعًا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب، ففي الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه، ويقطع صلتها عن المنعم بها، الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق أن ما أعطيه من النعم، إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصي، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله، وامتحان لم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدعون من الدعاء ما لا يفقهون.
٥٠ - ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم، بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم، فقال:{قَدْ قَالَهَا}؛ أي: قد قال (١): تلك الكلمة أو الجملة، وهي قوله:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: قد قال الذين من قبل قومك يا محمد مثل هذه المقالة، وهم قارون وقومه، حيث قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وهم راضون به؛ يعني لما رضي قوم قارون بمقالته .. جمعوا معه، وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بالذين من قبلهم: جميع من تقدمنا من الخيار والشرار، فيجوز أن يوجد في الأمم المتقدمة من يقول تلك الكلمة غير قارون أيضًا، ممن أبطرته النعمة، واغترّ بظاهرها. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}؛ أي: فما دفع عن أولئك القائلين من الأمم المتقدمة {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئًا من عذاب الله تعالى؛ يعني أن النعمة لم تدفع عنهم النقمة والعذاب ولم ينفعهم ذلك، ويجوز أن تكون {ما} في قوله: {فَمَا أَغْنَى}: نافية، كما فسرناها، وأن تكون استفهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم ذلك.
٥١ - {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}؛ أي: جزاء سيئات كسبهم، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمّي الجزاء سيئات؛ لوقوعه في مقابلة سيئاتهم، فهو من باب المشاكلة، كقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ففيه رمز إلى أن جميع أعمالهم من قبيل السيئات.