وخلاصة ما تقدم: أن هداية الدين كهداية الحس، لا تكون إلا للمستعد بهداية العقل، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالًا نافعًا في الدلائل البصرية والسمعية، لإدراك، أي مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم. والمقصود من هذا الكلام، تسلية رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فإن الطبيب إذا رأى مريضًا لا يقبل العلاج أصلًا، أعرض عنه واستراح من الاشتغال به
٤٤ - {إنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} بسلب حواسهم وعقولهم {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بإفساد الحواس والعقول، وتفويت منافعها عليها، فإن الفعل منسوب إليهم، بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم، وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون منه تعالى ظلمًا؛ لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالمًا.
والمعنى: أنه تعالى لم يكن في سننه في خلقه أن ينقصهم شيئًا من الأسباب، التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم، من إدراكات وإرشادات إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولكن الناس يظلمون أنفهسم وحدها دون غيرها؛ لأن عقاب ظلمهم واقع عليها فهم يجنون عليها بكفرهم، بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله، من اتباع الحق في الاعتقاد والهدى في الأعمال، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين.
وقال الشوكاني: ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئًا من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر، ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر