للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه، وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريًّا لا اختياريًّا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرًا، فليس من وظيفتهم لا في كثير ولا قليل.

ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، وجعلت سببًا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه، فقال:

٣٦ - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا في كل أمة من الأمم التي سلفت قبلكم {رَسُولًا} خاصًّا بهم، كما بعثناك في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، و {أن} في قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إما مصدرية (١)؛ أي: بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول؛ أي: قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله وحده لا شريك له، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: واتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال، أو واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا، والطاغوت هو الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلالة، وذلك لإلزام الحجة، وقطع المعذرة، مع علمه أن منهم من لا يأتمر بالأوامر ولا يؤمن، و {الفاء} في قوله: {فَمِنْهُمْ} فاء (٢) الفصيحة؛ أي: فبلغوا ما بعثوا به من الأمر، بعبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت، فتفرقوا، فمنهم؛ أي: فمن هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله، {مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته، واجتناب الطاغوت، أو خلق (٣) فيه الاهتداء إلى الحق الذي هو عبادته واجتناب الطاغوت، بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئي إلى تحصيله {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}؛ أي: وجبت وثبتت عليه الضلالة إلى حين الموت، لعناده وإصراره على الكفر، وعدم صرف قدرته، فلم يخلق فيه الاهتداء، ولم يرد أن يطهر قلبه.


(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.