فيَدْخُل فيه البَخْسُ بتطفيف الكيل والوزن دخولًا أوَّليًّا، وكانوا يأخذونَ من كلِّ شيء يباعُ شيئًا كما يفعل السماسرة، ويمكنون الناس وينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياءِ، وقيل: البخس المكس خاصة. ثم قال:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} العثي: أشدُّ الفساد؛ أي: ولا تفسدوا في الأرض؛ أي: ولا تفعلوا في الأرض ما ظاهِرُهُ الإِفْسَادُ حالةَ كونكم مفسدين؛ أي: قاصدينَ به الإفسادَ لا الإصلاحَ.
الإفساد: تعطيل يشمل مصالحَ الدنيا، وأمور الدين، وأخلاقَ النفس وصفاتها، وكلُّ ذلك فاش في عَصْرِنا، ومن الفساد: نقص الحُقُوق في المكيال والميزان. ومن الإفساد: قَصُّ الدراهم والدنانير، وترويج الزيوف ببعض الأسباب، وغير ذلك؛ أي: لا تفسِدوا في الأرض، وأنتم تتعمدون الإفسادَ، وإنما اشترط في النهي تعمد الإفسادِ؛ ليخرج بعضُ ما هو إفسادٌ في الظاهر، ويرادُ به الإصلاحُ، أو فعلُ أخفِّ الضرَرَين لدفع أثقلهما كما وقع من الخضر في السفينة، التي كانت لمساكين يعملون في البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءَهم من أخذها إذا أعجبته، وكما يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فَتحِ سُدَدِ الأنهار، أو إحراق بعض الغابات، أو قتل دواب أهل الحرب.
٨٦ - وهذا نَهْيٌ عام يشمل غير ما سَبَقَ كقطع الطرق، وتهديد الأمن وقطع الشجر، وقَتَل الحيوان، ونحو ذلك {بَقِيَّتُ اللَّهِ}؛ أي: ما أبقاه الله تعالى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان, وترك الحرام من الربح الحلال فهي فعيلة بمعنى المفعول، وإضافتها للتشريف كما في بيت الله، وناقة الله، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال يستحق التشريفَ {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: أكْثَرُ لكم بركةً، وأحمدُ عاقبةً مما تأخذونه بالتطفيف، وتجمعونه بالبخس من الحرام، فإن ذَلِكَ هبَاءٌ منثور، بل شر محض، وإن زعمتم أنَّ فيه خَيْرًا كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. قال في "شرح الشرعة": ولا يَخون أحد في مبايعته بالحِيَل والتلبيس، فإنَّ الرزق لا يزيد بذلك، بل تزول بركته فمَنْ جمع المال بالحِيل حَبَّةً حَبَّةً يهلكه الله جملة قبة قبة، ويبقَى عليه وزره ذرة ذرة، كرجل