{بُكْمٌ}؛ أي: خرس عن نطق الحقّ، لا يقولونه لمّا أبطنوا خلاف ما أظهروا، فكأنّهم لم ينطقوا. وهو جمع أبكم، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأبكم والأخرس كلاهما بمعنى واحد، والبكم: آفة في اللسان يمنع اعتماد الصوت على مخارج الحروف.
{عُمْيٌ}؛ أي: فاقدوا الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤدّيهم إلى الهدى، وفاقدوا البصيرة أيضا؛ لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له. فالعمى هنا مستعمل في عدم البصر والبصيرة جميعا، والعمى: فقدان البصر خلقة كان أم لا. والكلام في كل من الثلاثة على التشبيه البليغ، كما سيأتي. وهذه صفاتهم في الدنيا، ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها. قال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، فلا يسمعون سلام الله، ولا يخاطبون الله، ولا يرونه، والمسلمون كانوا سامعين للحقّ قائلين بالحق، ناظرين إلى الحقّ، فيكرمون يوم القيامة بخطابه، ولقائه، وسلامه.
{فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}؛ أي: هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه، وضيّعوه، وباعوه. أو لا يرجعون عمّا هم عليه من الغيّ، والضلال، والفساد. والفاء: للدلالة على أنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب تحيّرهم واحتباسهم. وهذه الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وأفادت أنّهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات، حيث استحقّوا الذمّ بتركه، وأنّ قوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ليس بنفي الآلات، بل هو نفي تركهم استعمالها.
١٩ - ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا آخر لهم؛ زيادة في الكشف والإيضاح، فقال:{أَوْ} مثلهم في حيرتهم وترددهم ويصحّ أن تكون {أَوْ} للتنويع، أو للإبهام، أو للشكّ، أو الإباحة، أو التخيير، أو الإضراب، أو بمعنى الواو، وأحسنها الأول. قال الشوكاني عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك؛ لقصد التخيير بين المثلين؛ أي: مثّلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل