{وَلَكُمْ} أيها المؤمنون لا لغيركم من الأعداء {فِيهَا}؛ أي: في الآخرة {مَا تَشْتَهِي} وتحب {أَنْفُسُكُمْ} من صنوف اللذات وفنون النعم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}؛ أي: ما تتمنون وتطلبون، افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، والفرق بين الجملتين: أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أو لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهًى للنفس، كالفضائل العلمية ونحوها، وعدم الاكتفاء بعطف {مَا تَدَّعُونَ} على {مَا تَشْتَهِي} للإشباع في البشارة، والإيذان باستقلال كل منهما،
٣٢ - وقوله:{نُزُلًاُ} حال من {مَا تَدَّعُونَ}؛ أي: من الموصول، أو من ضميره المحذوف، تقديره: ما تدعونه مفيدة لكون ما يدعونه ويتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور، كالنزل، وهو: ما يهيأ للنزيل؛ أي: الضيف من الرزق، كأنه قيل: وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف، وأما أصل كرامتكم فمما لا يخطر ببالكم، فضلًا عن الاشتهاء أو التمني.
وقرأ الجمهور:{نُزُلًا}، بضمتين، وقرأ أبو حيوة بإسكان الزاي؛ أي: حالة كون ما تدعونه نزلًا؛ أي: رزقًا كائنًا {مِنْ} رب {غَفُورٍ} للذنوب العظام، مبدل للسيئات بالحسنات {رَحِيمٍ} بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات.
وفي "التأويلات النجمية": {نُزُلًا}؛ أي: فضلًا وعطاءً وتقدمةً لما سيديم إلى الأبد من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف، وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن، خصوصًا لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان، ويظهر في كل وقت وموطن، ما لم يظهر قبله وفي غيره، ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال، ومن هنا قالوا: ما ازداد القوم شربًا إلا ازدادوا عطشًا، وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة. انتهى.
حكي: أن يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - كتب إلى أبي يزيد البسطامي - رحمه الله -: سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه، فكتب إليه أبو يزيد: