إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين، ومرقوا من الإسلام.
وقد كان من حصافة الرأي أن يكون خروج المهدي باعثا لهم على الاستعداد لظهوره، بتأليف عصبية قوية بزعامته، تجدد الإسلام وتنشر العدل في الإسلام، لكنهم لم يفعلوا، بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة بجمع كلمة الأمة، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة، واتكلوا على قرب ظهور المهدي، وأنه هو الذي سيرد إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات، لا بالمدافع والدبابات والطيارات، والقاذفات، والأساطيل، والغواصات، وقد فاتهم أنّ الحرب كانت بين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين المشركين سجالا، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا، فهل يكون المهدي أهدى وأحسن منه حالا ومآلا؟.
١٨٨ - {قُلْ} لهم يا محمد فيما تبلغه لهم من أمر دينهم {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} ولا لغيري {نَفْعًا وَلا ضَرًّا}؛ أي: جلب نفع ولا دفع ضر، مستقلا بقدرتي على ذلك {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أن يقدرني عليه، فإذا أقدرني على جلب النفع .. جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرني على منع الضر .. منعته بتسخير الأسباب كذلك.
وقد كان المسلمون - ولا سيما حديثوا العهد بالإسلام - يظنون أنّ منصب الرسالة يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب، وأنّ الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحب، أو عمن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره، أو بمن يشاء، فأمره الله تعالى أن يبين للناس أنّ منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وأن وظيفة الرسول إنّما هي التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد، وأنّه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ}{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}؛ أي: جلب منافع الدنيا، ودفع مضراتها {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}؛ أي: لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب، كالادخار في زمن الخصب لزمن الجدب {وَ} لـ {ما مَسَّنِيَ السُّوءُ}؛ أي: ولما أصابني